محمد تيمور

 

صباح ناصع الجبين يجلي عن القلب الحزين ظلماته، ويرد للشيخ شبابه، ونسيم عليل ينعش الأفئدة، ويسري عن النفس همومها، وفي الحديقة تتمايل الأشجار يمنة ويسرة كأنها ترقص لقدوم الصباح، والناس تسير في الطريق وقد دبت في نفوسهم حرارة العمل، وأنا مكتئب النفس أنظر من النافذة لجمال الطبيعة، وأسائل نفسي عن سر اكتئابها فلا أهتدي لشيء.

تناولت ديوان موسيه وحاولت القراءة فلم أفلح، فألقيت به على الخوان، وجلست على مقعد، واستسلمت للتفكير كأني فريسة بين مخالب الدهر.

مكثت حينًا أفكر، ثم نهضت واقفًا وتناولت عصاي وغادرت منزلي وسرت وأنا لا أعلم إلى أي مكان تقودني قدماي، إلى أن وصلت إلى محطة باب الحديد، وهناك وقفت مفكرًا، ثم اهتديت للسفر ترويحًا للنفس، وابتعت تذكرة — درجة ثانية — وركبت القطار للضيعة لأقضي فيها نهاري بأكمله.

جلست في إحدى غرف عربات القطار بجوار النافذة، ولم يكن بها أحد سواي، وما لبثت في مكاني قليلًا حتى سمعت صوت بائع الجرائد يطن في أذني: «وادي النيل، الأهرام، المقطم»، فابتعت إحداها وهممت بالقراءة، وإذا بباب الغرفة قد انفتح ودخل شيخ من المعممين، أسمر اللون طويل القامة نحيف القوام كث اللحية، له عينان أقفل أجفانهما الكسل، فكأنه لم يستيقظ من نومه بعد، وجلس الأستاذ غير بعيد عني، وخلع مركوبه الأحمر قبل أن يتربع على المقعد، ثم بصق على الأرض ثلاثًا ماسحًا شفتيه بمنديل أحمر يصلح أن يكون غطاءً لطفل صغير. ثم أخرج من جيبه مسبحة ذات مائة حبة وحبة، وجعل يردد اسم الله والنبي والصحابة والأولياء والصالحين. فحولت نظري عنه فإذا بي أرى في الغرفة شابًّا لا أدري من أين دخل علينا، ولعل اشتغالي برؤية الأستاذ منعني أن أرى الشاب ساعة دخوله.

نظرت إلى الفتى وتبادر لذهني أنه طالب ريفي انتهى من تأدية امتحانه وهو يعود إلى ضيعته ليقضي إجازته بين أهله وقومه. نظر إليَّ الشاب كما نظرت إليه، ثم أخرج من محفظته رواية من روايات مسامرات الشعب، وهمَّ بالقراءة بعد أن حول نظره عني وعن الأستاذ، ونظرت للساعة راجيًا أن يتحرك القطار قبل أن يوافينا مسافر رابع، فإذا بأفندي وضاح الطلعة حسن الهندام دخل غرفتنا وهو يتبختر في مشيته، ويردد أنشودة طالما سمعتها من باعة الفجل والترمس. جلس الأفندي وهو يبتسم واضعًا رجلًا على رجل بعد أن قرأَنا السلام فرددناه رد الغريب على الغريب.

وساد السكون في الغرفة؛ والتلميذ يقرأ روايته، والأستاذ يسبح وهو غائب عن الوجود، والأفندي ينظر لملابسه طورًا وللمسافرين تارة أخرى، وأنا أقرأ وادي النيل منتظرًا أن يتحرك القطار قبل أن يوافينا مسافر خامس.

مكثنا هنيهة لا نتكلم كأنا ننتظر قدوم أحد، فانفتح باب الغرفة ودخل شيخ يبلغ الستين، أحمر الوجه براق العينين، يدل لون بشرته على أنه شركسي الأصل، وكان ممسكًا مظلة أكل الدهر عليها وشرب، أما حافة طربوشه فكانت تصل إلى أطراف أذنيه، وجلس أمامي وهو يتفرس في وجوه رفقائه المسافرين كأنه يسألهم من أين هم قادمون، وإلى أين هم ذاهبون. ثم سمعنا صفير القطارة تنبئ الناس بالمسير، وتحرك القطار بعد قليل يقلُّ من فيه إلى حيث هم قاصدون.

سافر القطار ونحن جلوس لا ننبس ببنت شفة، كأنما على رءوسنا الطير، حتى اقترب من محطة شبرا، فإذا بالشركسي يحملق فيَّ، ثم قال موجهًا كلامه إليَّ: هل من أخبار جديدة يا أفندي؟

فقلت له وأنا ممسك الجريدة بيدي: ليس في أخبار اليوم ما يستلفت النظر، اللهم إلا خبر اهتمام وزارة المعارف بتعميم التعليم ومحاربة الأمية.

ولم يمهلني الرجل أن أتم كلامي؛ لأنه اختطف الجريدة من يدي دون أن يستأذنني، وابتدأ بقراءة ما يقع تحت عينيه، ولم يدهشني ما فعل؛ لأني أعلم الناس بحدة الشراكسة، وبعد قليل وصل القطار محطة شبرا، وصعد منها لغرفتنا أحد عمد القليوبية، وهو رجل ضخم الجثة كبير الشارب أفطس الأنف، له وجه به آثار الجدري، تظهر عليه مظاهر القوة والجهل. جلس العمدة بجواري بعد أن قرأ سورة الفاتحة وصلى على النبي، ثم سار القطار قاصدًا قليوب.

مكث الشركسي قليلًا يقرأ الجريدة، ثم طواها وألقى بها على الأرض وهو يحرق الأرم وقال: يريدون تعميم التعليم ومحاربة الأمية حتى يرتقي الفلاح إلى مصاف أسياده، وقد جهلوا أنهم يجنون جناية كبرى.

فالتقطتُ الجريدة من الأرض وقلت: وأي جناية؟

– إنك ما زلت شابًّا لا تعرف العلاج الناجع لتربية الفلاح.

– وأي علاج تقصد؟ وهل من علاج أنجع من التعليم؟

فقطب الشركسي حاجبيه وقال بلهجة الغاضب: هناك علاج آخر.

– وما هو؟

فصاح بملء فيه صيحة أفاق لها الأستاذ من نومه، وقال: السوط؛ إن السوط لا يكلف الحكومة شيئًا، أما التعليم فيتطلب أموالًا طائلة، ولا تنسَ أن الفلاح لا يذعن إلا للضرب؛ لأنه اعتاده من المهد إلى اللحد.

وأردت أن أجيب الشركسي، ولكن العمدة — حفظه الله — كفاني مئونة الرد، فقال للشركسي وهو يبتسم ابتسامة صفراء: صدقت يا بيه صدقت، ولو كنت تسكن الضياع مثلنا لقلت أكثر من ذلك. إننا نعاني مع الفلاح ما نعاني؛ لنكبح جماحه، ونمنعه عن ارتكاب الجرائم.

فنظر إليه الشركسي نظرة ارتياب وقال: حضرتكم تسكنون الأرياف؟

– أنا مولود بها يا بيه.

– ما شاء الله.

جرى هذا الحديث والأستاذ يغط في نومه، والأفندي ذو الهندام الحسن ينظر لملابسه ثم ينظر لنا ويضحك، أما التلميذ فكانت تظهر على وجهه سيما الاشمئزاز، ولقد هم بالكلام مرارًا فلم يمنعه إلا حياؤه وصغر سنه، ولم أطق سكوتًا على ما فاه به الشركسي، فقلت له: إن الفلاح يا بيه إنسان مثلنا، وحرام أن لا يحسن الإنسان معاملة أخيه الإنسان.

فالتفت إليَّ العمدة كأني وجهت إليه الكلام، وقال: أنا أعلم الناس بالفلاح، ولي الشرف أن أكون عمدة في بلد به ألف رجل، وإن شئتَّ أن تقف على شئون الفلاح أجِبْك. إن الفلاح يا حضرة الأفندي لا يفلح معه إلا الضرب، ولقد صدق البك فيما قال (وأشار بيده إلى الشركسي).

فقال الشركسي وهو يبتسم ابتسامة الساخر: ولا ينبئك مثل خبير.

فاستشاط التلميذ غضبًا، ولم يطق السكوت، فقال وهو يرتجف: الفلاح يا حضرة العمدة …

فقاطعه العمدة قائلًا: قل «يا سعادة البك»؛ لأني حزت الرتبة الثانية منذ عشرين سنة.

فقال التلميذ: الفلاح يا حضرة العمدة لا يذعن لأوامركم إلا بالضرب لأنكم لم تعودوه غير ذلك، فلو كنتم أحسنتم صنيعكم معه لكنتم وجدتم فيه أخًا يتكاتف معكم ويعاونكم، ولكنكم مع الأسف أسأتم إليه فعمد إلى الإضرار بكم تخلصًا من إساءتكم، وإنه ليدهشني أن تكون فلاحًا وتنحي باللائمة على إخوانك الفلاحين!

فهز العمدة رأسه ونظر للشركسي وقال: هذه هي نتائج التعليم.

فقال الشركسي: نام وقام فوجد نفسه قائم مقام.

أما الأفندي ذو الهندام الحسن، فإنه قهقه ضاحكًا وصفق بيديه، وقال للتلميذ: برافو يا أفندي، برافو برافو.

فنظر إليه الشركسي، وقد انتفخت أوداجه، وتعسر عليه التنفس، وقال: ومن تكون أنت؟

– ابن الحظ والأنس يا أنس.

وضحك عدة ضحكات متواليات.

فلم يبق في قوس الشركسي منزع، فصاح وهو يبصق على الأرض طورًا، وعلى جبة الأستاذ وعلى حذاء العمدة تارة: أدبسيس، بس فلاح.

ثم سكت وسكت الحاضرون، وأوشكت أن تهدأ العاصفة لولا أن التفت العمدة للأستاذ، وقال: أنت خير الحاكمين يا سيدنا، فاحكم لنا في هذه القضية.

فهز الأستاذ رأسه وتنحنح وبصق على الأرض، وقال: وما هي القضية لأحكم فيها بإذن الله — جل وعلا؟

هل التعليم أفيد للفلاح أم الضرب؟

فقال الأستاذ: بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا، قال النبي — عليه الصلاة والسلام: «لا تعلموا أولاد السفلة العلم.»

وعاد الأستاذ إلى خموله، وأطبق أجفانه مستسلمًا للذهول. فضحك التلميذ وهو يقول: حرام عليك يا أستاذ. إن بين الغني والفقير من هو على خلق عظيم، كما أن بينهم من هو في الدرك الأسفل.

فأفاق الأستاذ من غشيته، وقال: واحسرتاه! إنكم من يوم ما تعلمتم الرطان فسدت عليكم أخلاقكم، ونسيتم أوامر دينكم، ومنكم من تبجح وبغى واستكبر وأنكر وجود الخالق.

فصاح الشركسي والعمدة: «لك الله يا أستاذ.» وقال الشركسي: كان الولد يخاف أن يأكل مع أبيه واليوم يشتمه ويهم بصفعه.

وقال العمدة: كان الولد لا يرى وجه عمته، والآن يجالس امرأة أخيه.

ووقف القطار في قليوب، فقرأت الجميع السلام وغادرتهم، وسرت في طريقي إلى الضيعة وأنا أكاد لا أسمع دوي القطار وصفيره، وهو يعدو بين المروج الخضراء؛ لكثرة ما يصيح في أذني من صدى الحديث.