أحمد حسن الزيات

سهرت بجانب المذياع ليلة أستمع إلى أم كلثوم في حفلتها الإذاعية الشهرية، وكان صوتها ينبعث من الجهاز رخيما عذبا فيملاً جوانب نفسي وحتى كأنما كنت أسمعه بجسمي كله. فإذا انقطعت (الوصلة) أخذ المذيع يثرثر بالفارغ وبعض الملآن فينقلني من نشوة النغم المرفه إلى صحوة السأم الممض، حتى أقبلت هوادى الليل واستأنفت المطربة العظيمة الغناء في وصلتها الأخيرة. وكان الشارع قد سكن، والبيت قد نام، والمذيع قد فتر، فأحسست أن الصوت الساحر ينسكب في مسمعي، نقيا كرنين الفضة، نديا كترجيع البلبل، تقياً كتسبيح الملائكة، فاعترتني حال من الصوفية الشاعرة، فيها الحب والشوق، وفيها الفناء والعبادة. حتى إذا انتهى الغناء الآسر، وانفض السامر النشوان، أويت إلى مضجعي التمس للنوم فامتنع على، ووجدت بي نزوعا إلى اجتلاء الطبيعة في مجتلاها الرحب، فصعدت إلى سطح البيت المنعزل وأرسلت عيني تجولان حول البيوت المظلمة النائمة، ومن ورائهما خيالي ينفذ من وراء الجدر والستور إلى أنماط شتى من الناس تفاوتوا في الحظوظ وتباينوا في الأحوال؛ فمن خلى ينام ملء جفنيه نوم الطفل لا يعوده طيف ولا يزعجه حلم! ومن شجى يسامره الهم ويساوره القلق فلم تكتحل عيناه بغمض! ومن مريض يتململ على فراشه النابي فلا يسكن إلا ليتقلب، ولا يسكت إلا ليئن؛ ومن حبيب يخلو إلى حبيبه خلوة النوال بعد الرغبة، أو الوصال بعد القطيعة، وثالثهما شيطان يحرض أو ملك يحرس؛ ومن زوج يسكن إلى زوجه سكون المودة والرحمة، وتحت جناحيهما فراخهما الزغب ينعمون بالنوم السعيد في العش الهادئ الدافئ؛ ومن مجرم يطوي أحناء صدره على السوء، فهو يبيِّت بليل ما سيقترف غداً من العدوان والإثم، ولا يجد من ضميره الغافي حسابا على ما اقترف بالأمس من المنكر والبغي؛ ومن مؤمن قضى موهنا من الليل يتهجد بالصلاة ويتعبد بالذكر ، ثم غفا قليلا ليهب على نسيم السحر ودعاء المؤذن إلى بيت الله القريب . كل هؤلاء ضمنتهم هذه البيوت المتجاورة المتغابرة كما تضمن السرائر نوازع القلوب ونوازى الأنفس فلا يعلمها إلا الله الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.

ثم نظرت نظرة في النجوم وهي تسبح في أفلاكها بين متألق وخاب، ودان وقاص، وصاعد ومنحدر، فتواردت على خاطري مختلف الآراء التي استقرت في أذهان الناس عنها في القديم والحديث، فقد اختلفوا في النظر إليها كما اختلفوا في النظر إلى حقائق المعاني الثابتة كالحق والعدل، كل يفهمها على حسب ما يستفيد منها أو يعلم عنها أو يتأثر بها… فالمؤمن يراها مصباح الدجى ومعالم الهدى ورجوماً للشياطين. والشاعر يراها لآلئ قد رصعت رقيع السماء، أو أزاهر بيضا قد طفت على وجه الماء. والبدوي يراها صوراً من الأحياء على هيئة الإنسان والحيوان والطير، تحب وتبغض، وتسالم وتحارب، فهو يضع لها الأسماء، ويسرِّج حولها الأحاديث، ويؤلف عنها الأساطير، ويقول فيها الشعر. والمنجم يراها مطالع السعد والنحس، ومفاتح السر والغيب. والعالم يراها أجراماً هائلة تجرى في الفضاء بتقدير العزيز العليم، فيها الجبال والأغوار والأخاديد، وليس فيها الجمال ولا الحياة ولا التأثير ولا الأمل. فهل آن العلم الروسي أو الأمريكي أن يجوس بالإنسان خلال هذه الكواكب فيرود المجهول ويعلم الغيب ويحتل السماء، وتصبح العوالم الأخرى مديرة بمشيئته مسخرة لأمره؟

كنت مشغولا بفكري وخيالي في الكونين الأدنى والأعلى حين وقع في مسمعي تسبيح المؤذن على مئذنة (قايتباي)، فعدت من التفكر في الملكوت إلى التفكر في المالك، وانتقلت من التوجه إلى المخلوق إلى التوجه إلى الخالق. وانبعث آنئذ من جانب البيت الملاصق صوت خاشع يقرأ سورة الإسراء بتجويد بين وترتيل حسن، وكان القارئ المتهجد قد بلغ في قراءته قول الله تعالى: “أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر، إن قرآن الفجر كان مشهوداً. ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محموداً” فأصغيت بسمعي وقلبي إلى كلمات الله وهي تصعد إليه من فم هذا الرجل في جلوة السحر وخلوة المكان وقد سجا الليل، ورق الظلام، وعمق النوم، واختلط سنا (الزهرة) بتباشير الفجر فابيض الأفق الشرقي ابيضاض اللؤلؤ؛ وتجاوب أذان المؤذن وترتيل المرتل تجاوب الوحي والدعوة، فذكرت بالقرآن الله الذي أوحى، وبالأذان الرسول الذي بلغ. واتحد الصوتان في نفسي بصوت إيماني القوي بالموحى والمبلغ، ففنى وجودي المادي في وجودي الروحي، فلم أعد أشعر بالفلاك ولا بالزمن ولا بالعالم. وانمحى من مسمعي ما كان يشغلهما من الأصداء الملحة لشدو أم كلثوم ولحن السنباطي ونظم رامي. وبقيا فارغين خالصين لسبحان السحر وقرآن الفجر يتقبلانهما بقوة ولذة واستيعاب، فيسريان في كياني ووجداني مسرى البرء في السقم، أو الروح في البدن، أو الإيمان في القلب، لا لحسن الصوت ولا لجمال الإيقاع، ولكن لشعور سماوي لا تدركه حاسة، ولا تصفه لغة، ولا يعرفه إلا من وقف هذه الوقفة مستحضراً في ذهنه جلال الله، مستشعراً في نفسه جمال الطبيعة….

انا لنسمع القرآن والأذان في كل يوم وفى كل صلاة، ولكننا حين نسمعهما لا نجد في أنفسنا تلك الجلوة التي تنشأ عن الصفاء، ولا ذلك الاستغراق الذي يصل ما بينها وبين السماء. ذلك لأن مشاعرنا تكون في النهار مشغولة بضجة العمل وزحمة العيش فلا تخلص لمواحي الروح في العالم الآخر.

أما الاستماع إليهما وقد هب المتقون من إغفاءة الفجر اللذيذة حين لا يكون المرء إلا روحاً تمض وفكراً يجول وخيالا يحلق ونفساً تصلى، فتلك هي ساعة التجلي، ساعة يندمج فيها الشاهد في المشهود، وينفعل العابد بالمعبود، ويشعر ابن آدم القليل الضئيل المرتفق على سور السطح أنه شعاعة من نور الله إذا انقطعت عن مدده خمدت، وهباءة في فضاء الكون إذا أفلتت من جذبه فقدت!

وقف القارئ عند قول الله تعالى اسمه: “وبالحق أنزلناه وبالحق نزل، وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيراً. وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا” حين قال المؤذن: حي على الصلاة! حي على الفلاح! الصلاة خير من النوم. الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله! ثم غابت غرفة القارئ ومنارة المؤذن في السكون الشامل، وأخذ الفجر ينسج من خيوطه البيض غلالة شفة على وجه المشرق، وأخذ الصبح الجميل يتنفس رويداً بين فرعى النيل الكبير والصغير من منيل الروضة؛ وبدأت القاهرة الراقدة تتثاءب وتتمطى استعداداً لليقظة، فسمعت من قريب سيارة نقل تتحرك، ومن بعيد قطار حلوان يصفر، فهبطت من السطح لأقيم صلاتي وأدرك قليلا من النوم، قبل أن أبدأ عمل اليوم!