المعركة التي أنقذت الإسلام والعروبة
- 1 –
أيام النصر كواكب سعد تتألق في ليل جهادنا الداجي الطويل، أو هي أعلام مجد تخفق على شواهق تاريخنا الجليل الحفيل؛ فيوم بدر، ويوم مكة، ويوم اليرموك، ويوم القادسية، ويوم حطين، ويوم المنصورة، ويوم رشيد، ويوم بور سعيد، مراحل هادية في طريق الركب البشرى نقلته كل مرحلة منها إلى منزلة من منازل الكمال الاجتماعي ؛ من الشرك إلى الوحدانية، ومن الرق إلى الحرية، ومن همجية الفوضى إلى مدنية النظام، ومن فرقة الجهالة إلى ألفة السلام، ومن قيادة الهوى الحاكم إلى سياسة العقل الحكيم، فالاحتفال بذكرياتها احتفال بكرامة الإنسان وغلبة العدل والإحسان وسيادة العلم والنور.
وقد احتفلت جمهوريتنا منذ أسابيع بيومي رشيد وبورسعيد، وستحتفل في الثامن من هذا الشهر: شهر فبرابر بيوم المنصورة، وهو اليوم الأغر الذي صدق الله فيه وعده للمسلمين فانطفأت على مياه (البحر الصغير) آخر حرب أوقد نارها الاستعمار الكافر باسم الصليب البريء على أرض الكنانة فأنقذ الأمة الوسط من عاقبة كعاقبتها في الأندلس مع الفرنج، ومن كارثة ككارتها في العراق من المغول.
- 2 –
كان العرش العباسي في منتصف القرن الثالث عشر الميلاد قد زعزع للغول قوائمه وأوشكوا أن يقوضوه، وكان الوطن العربي قد مزقته المطامع وكاد أهله أن يفقدوه، وكان آل الصليب ممن وترهم صلاح الدين في حطين يجمعون الأهبة ويتحينون الفرصة لاسترداد بيت المقدس بالعودة إلى غزو الشام وفلسطين، ورأى لويس التاسع ملك فرنسا أن الفرصة قد واتته بهجوم التتار على العراق. وعبث الحشاشين في الشام، وتنازع الأيوبيين في مصر، فاعتزم الغزوة الصليبية السابعة. ونصح له أصحاب رأيه، وأركان حربه، أن يستولى أولا على مصر؛ لأنها معقل الإسلام وموئل العروبة، والاستيلاء عليها يفتح الطريق إلى فلسطين وسورية والعراق فيدخلها من غير حائل ولا وائل.. أليست مصر هي التي سحقت الصليبيين في حطين فأنقذت دين الله، وصدت التتار في عين جالوت فأنقذت تراث محمد؟
هنالك دعا القسيس لويس ومن شايعه من أقطاب النصرانية إلى الغزو الأمراء والفرسان وعشاق المغامرات ممن يطمعون أن يكون لهم في مصر إقطاعيات وإمارات على نحو ما كان لأسلافهم في بلاد الشام وشمال العراق منذ قرن ونصف. فاجتمع إليهم من فجاج الأرض زهاء خمسين ومائة ألف فارس، واحتشد لديهم من موانئ البحر ألف وثلاثمائة سفينة، وأبحروا إلى مصر بهذا الجيش العرمرم في هذا الأسطول الضخم، يسوقهم الإيمان الأعمى، ويقودهم الطمع الجشع، ويرشدهم ضلال من سبقوهم من الغزاة المغلوبين، ويحرضهم الثأر لمن صرعهم صلاح الدين. ولو أن الجد الناهض كان في صف العدو لوقعت مصر والشرق العربي كله في قبضة فرنسا منذ سبعة قرون، ولا استحال على العرب وهم تحت سلطانها المميت المدمر أن يدركوا معنى الوجود إلى يوم الناس هذا، ولكن موقعة المنصورة وهي حطين الثانية كانت كلمة من وعد الله الصادق بالنصر لحماية دينه، فحولت مجرى التاريخ، وغيرت وجه الأحداث، وألقت إلينا مقاليد القدر.
– 3 –
في أواخر سبتمبر من عام ۱۲٤٨ م أرمى أسطول القديس لويس على شواطئ (ليماسول) ميناء قبرص، فنزل منه الفوارس الغلاظ الشداد عليهم القمصان البيض والصلبان السود، فسطعت في أنوفهم من بعيد ريح الخمر القبرصية وما ينتشر حولها من وهيج الشواء وأريج النساء وفوحة الزهر، فتلقاهم ملك الجزيرة (هنري) بما يشتهون. فلبثوا يقصفون ويفسقون ثمانية أشهر جعلوا قبرص كلها في هذه المدة ماخورا كبيرا وحانة عظيمة! وكان الملك القديس في أثنائها يجمع المئونة ويكمل المدة وينتظر من تخلف عنه من هواة الإقطاع، ويستقبل من وفد عليه من سفراء المغول، ليحالفوه على قبض النفوذ المصري من الشرق بعد أن استحال عليهم ذلك. فلما قرروا الإبحار إلى مصر كتب لويس إلى ملكها الصالح نجم الدين أيوب كتابا ينذره فيه بالهجوم جريا على سنن الفروسية في العصر الوسيط جاء فيه على ما روى المقريزي:
“أما بعد: فإنه لم يخف عنك أنى أمين الأمة العيسوية، كما أني أقول إنك أمين الأمة المحمدية. وإني غير مخف عنك أن أهل جزائر الأندلس يحملون إلينا الأموال والهدايا، ونحن نسوقهم سوق البقر، ونقتل منهم الرجال ونرمل النساء….. وقد عرفتك وحذرتك من عساكر قد حضرت في طاعتي تملأ السهل وعددهم كمدد الحصى.”
فرد عليه الملك بجواب من إنشاء القاضي الشاعر بهاء الدين زهير نقتطف
منه قوله:
“.. وصل كتابك، وأنت تهدد فيه بكثرة جيوشك وعدد أبطالك، فنحن أرباب السيوف، وما قتل منا فرد إلا جددناه، ولا بغى علينا باغ إلا دمرناه، وستعض أناملك ندما في يوم أوله لنا وآخره عليك، ونعود إلى قول الله تعالى: “كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين.”
- 4 –
رسا الأسطول الفرنسي على ساحل دمياط في اليوم الرابع من شهر يونيه من السنة نفسها وكانت غير محصنة فاحتلتها، ودخلها الفرنسيون دخول الطاعون. الوافد، فوجدوا أهلها قد جلوا عنها وراء القائد فخر الدين بن شيخ الشيوخ وتركوا منازلهم معمورة بالأرزاق ومتاجرهم مغمورة بالبضائع، فرتعوا فيها رتوع الخنازير، واشتعلوا بها اشتعال الجرذان، وحول الجيش المدارس مواخير والسباحات مراقص، كما حول الملك لويس المسجد الجامع كنيسة للعذراء، والمساجد الأخرى كنائس القديسين. وحصن القواد الأسوار، وشيدوا الأبراج، وأعدوا وسائل الدفاع. وظل القائد القديس يقيم القداديس ويقدم القرابين وجيشه يقيم المراقص ويأتي الفواحش أربعة أشهر، ثم قرروا المسير إلى القاهرة عن طريق المنصورة وكان جيشنا يستعد في القاهرة الدفاع، وشعبنا يتجمع في الدلتا للهجوم وآلاف المتطوعين يتقاطرون على معسكرات العدو يتغفلونهم بالليل ويتخطفونهم بالنهار.
ورأى القواد المصريون أن يحاصروا الغزاة في الدلتا وألا يخلوا بينهم وبين القاهرة، فتقدم الملك الصالح الجيش إلى المنصورة وهي قلعة مصر الشمالية. ونزل بقصرها ليكون على مقربة من المعركة.
وبين عشية وضحاها انقلب هذا الشعب الأصيل الحر من فلاح يحرث وصانع يعمل وتاجر يبيع وعاطل يلهو، كتلة واحدة من البأس تتسعر شوقا إلى الحرب، وتفور حقدا على العدو، وتبذل كل ما تملك في سبيل القياد عن الوطن والدفاع عن استقلاله. وأعجب العجب أن بلاء المتطوعين كان أشد وجهادهم كان أصدق.
تجمع الجيش النظامي في المنصورة وانتشر المتطوعون حول جيش العدو في الموقع المثلث الذي اختاره بين الشمال الشرقي من بحيرة المنزلة، والشمال الغربي من فرع دمياط، والجنوب الشرقي من بحر أشموم لمناح، وكانت قيادة العدو قد عسكرت في شر مساح والبرمون، فلم يكن بين الجيشين من فاصل إلا (البحر الصغير) وكان النيل لا يزال في فيضانه. وتعذر على الفرنسيين عبور البحر الصغير فظلوا يكابدون هجوم العصائب من المجاهدين المتطوعين في كل ساعة من ساعات الليل والنهار. ولهؤلاء الفدائيين آيات من التضحية والبطولة سجلها مؤرخو هذه المعركة. منها أن أحدهم قور بطيخة ووضع رأسه فيها ثم سبح في النهر غائصاً حتى اقترب من الشاطئ الشرقي، فنزل أحد الصليبيين ليأخذ البطيخة فسحبه المصري وعاد به سابحاً إلى المعسكر.
فلما أعيا الفرنسيين الأمر لجأ ملكهم إلى الصلاة، فيقال: إن من (كراماته) أن أعرابيا خائنا طمع في ما لهم فدلهم على مخاضة في النهر عند (سلامون) فخاضها فريق من الجيش بقيادة الكونت دار توا أخي الملك، وباغتوا المصريين بالمدينة في اليوم الثامن من شهر فبراير عام ١٢٥٠ فوقع الاضطراب وعم الفزع واغتيل القائد فخر الدين حتى قال ابن واصل المؤرخ، وكان فيمن جاهد وشاهد: «انزعجنا وغلب على الظنون بوار الإسلام، على أنه كان من سعادة المسلمين تفرق الإفرنج في الأزقة». وتولى القيادة بيبرس فحصر بالمماليك البحرية الجيش المهاجم في شوارع المنصورة الضيقة، وأخذوهم بالسيوف والدبابيس، وتلقفهم الأهلون قذفا بالحجارة وضربا بالحديد وخطفا باليد، فلم يدروا كيف يتقون المنايا وقد تخطفهم من كل مكان، فهلكوا جميعا وفيهم (دار توا). وطلب الجيش والشعب بقية الصليبيين جنوب النهر، فالتحم الفريقان وتعاقب بينهما المد والجزر. وكان الأسطول المصري قد شارك في القتال فحصر مراكب العدو في النيل وقطع ما بينها وبين جيشه، فعز القوت وفشت المجاعة وانتشر الوباء واستحر القتل، ففقد الصليبيون أربعين ألف قتيل ومائة ألف أسير، فلم ير ملك فرنسا بدا من أن يتقهقر هو وأركان حربه إلى (منية أبي عبد الله) وأن ينزل في بيت امرأة فرنسية كانت من أهل ضواحي باريس، ثم استسلم واستأسر. وتفاوض المصريون والفرنسيون في شروط الهدنة، فاتفقوا على أن يسلم هؤلاء دمياط، وأن يفدوا ملكهم بثمانمائة ألف دينار، وأن يسجن حتى ينفذوا هذه الشروط.
- 5 –
اقتيد الملك لويس التاسع هو والسكونت أنجو، والكونت بواتو، إلى دار القاضي فخر الدين ابراهيم بن لقمان كاتب الإنشاء وكلف الطواشي صبيح بالقيام على أمره، فلبث في السجن حتى ردت دمياط وأديت الفدية، فحمل هو ومن معه على سفينة جنوية أقلتهم إلى عكا، والمصريون يودعونه بهذه الأبيات التي قالها جمال الدين بن مطروح:
قل للفرنسيس إذا جئته مقال صدق من قؤول فصيح آجرك الله على ما جرى من قتل عباد يسوع المسيح أتيت مصرا تبتغى ملكها تحسب أن الزمر يا طبل ريح فاقك الحين إلى أدهم ضاق به في ناظريك الفسيح وكل أصحابك أودعتهم بحسن تدبيرك بطن الضريح سبعون ألفا لا يرى منهم إلا قتيل أو أسير جريح الهمك الله إلى مثلها لعل عيسى منكمو يستريح وقل لهم إن أزمعوا عودة لأخذ ثأر أو لفعل قبيح دار ابن لقمان على حالها والقيد باق والطواشي صبيح |
وقد أجاب الله دعوة الشاعر فعاد حفدة لويس إلى ديارنا يرتكبون الجرار، وانتقلت دار ابن لقمان وقيدها وطواشيها من مصر إلى الجزائر!