مثل من الإلحاد الأحمر

 

منذ أسبوعين اثنين أذاع راديو موسكو حديثاً للمحرر الأول في مجلة العلوم السوفييتية قال فيه : إن القمر الروسي الذى انطلق أخيراً بين أجرام السماء مزوداً بالأجهزة العلمية الدقيقة التي تبصر وتسمع وترصد لم يرسل بين أنبائه ما يثبت من قريب أو بعيد تلك الدعوى التي ادعتها الأديان المختلفة من وجود ملكوت أعلى في السماء يستوى على عرشه إله، وتحف من حوله ملائكة، ويطوف بأبوابه رسل، وتقوم على أرجائه الجنة والنار، وتصدر عن محكمته الأقضية والأقدار فلم يكن هناك إذن إلا وهم جسمه الجهل في عقول الناس، أو خداع تذرع به الطامحون إلى ملك الأرض ! !

ولیت شعري ماذا كان ينتظر هذا الأحمق الأحمر من قمره أن ينبئه به؟ أكان ينتظر منه أن يقول له إنه رأى الله جالساً فوق كرسيه في السماء، وسمع الملائكة وهم يسبحون الله في غيابات الفضاء، وشم روائح الأجساد وهي تحترق في سعير جهم، وذاق ثمار الجنة، وهى تتدلى من شجر الخلد، ولمس خدود الحور وهن يتخطرن في خمائل عدن؟

قطعة من الجماد يبلغ وزنها طنا وبعض طن، أفلحوا في قذفها إلى ما وراء الجاذبية الأرضية فاتخذت لها مداراً اضطراريا حول الأرض أو حول القمر، فمجالها محدود وبقاؤها موقوت؛ وما كان محصور المكان أو موقوت الزمان استحال عليه أن يحيط باللانهاية أو يشعر بالأبدية.

وماذا تعرف الهباءة عن الأفق الذي لا ينتهي، أو القطرة عن المحيط الذي لا يحد؟!

إن الإله الذي ( وسع كرسيه السموات والأرض ) لا يجوز في العقل أن يحتويه منها موضع، وإن الجنة التي عرضها السموات والأرض ) لا يدخل في الإمكان أن يستوعب طولها موقع، وإن ( اللعبة ) التي تطفل بها العلماء على مسابح الأجرام إنما تمسكها قدرة الله لا قدرة الإنسان، وتديرها قوة (النظام) لا قوة العلم، فهي شاهد إثبات لا شاهد نفى، ودليل إيمان لا دليل كفر، ولكن المسألة ليست مسألة عقل ولا علم، إنما هي الشيوعية التي كفرت بالله و آمنت بماركس، وفرطت في الروح وأفرطت في المادة، وأرادت أن تسلب بني آدم في جميع أقطار الأرض نعمة الحرية وعزة الإرادة ولذة الاقتناء، لتجعلهم قطيعا واحداً من العبدان على جباههم سمة (المطرقة والمنجل)[1]، يعملون كما تعمل الآلات، ويأكلون كما تأكل الأنعام، ثم يهلكون كما تهلك الدواب.. وتلك هي حياة كل شيوعي وحاله: أرض ولا سماء، ويوم ولا غد، وطريق

ولا غاية، وعمل ولا تبعة، ودنيا ولا آخرة!!

لقد رأت الشيوعية أن الأديان هي العقبة الكأداء في سبيل إرادتها وقيادتها، فجعلت همها الأول إطفاء النور الإلهي في القلوب بإشاعة الإلحاد ونشر الإباحية وتسليط الغرائز وتحكيم الشهوات وإثارة الفتن، لتكون النفوس مهيأة بعد ذلك لقبول كل مبدأ وسلوك أي مسلك. وكان الإسلام هو عدوها الألد، لأنه الدين العملي الذي ينظم الدنيا بالدين في السياسة والاجتماع والاقتصاد، فألف بين القلوب، وآخى بين الناس، وساوى بين الأجناس، وعالج الفقر وهو علة الملل بما لو أخذبه المصلحون لوقاهم شرور هذه الحروب، وكفاهم أخطاء هذه المذاهب: عالجه بالسفارة بين الغنى والفقير على أساس الاعتراف بحق الملكية والاحتفاظ بحرية التصرف، فلا يدفع مالك عن ملكه، ولا يعارض حرفي إرادته، وإنما جعل للفقير في مال الغني حقا معلوما لا يكمل دينه إلا بأدائه. فالأرض التي تشرق بهذه المبادئ لا تستطيع خفافيش الشيوعية أن تعيش فيها. لذلك هيأت لهدم الإسلام قوى الباطل وأسلحة الضلال فافترت عليه الأكاذيب. وطيرت حواليه الشكوك، وقالت في كتبها وصفها وإذاعتها: إن الإسلام لا يعرف العدل لأن القرآن يقول: (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق) ولا يعرف المساواة لأن القرآن يقول: (ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات). ولا يعرف الحربة لأنه قيد كل شيء بقيد: قيد الرزق بالملكية، وقيد المرأة بالزوجية، وقيد تصرف النفوس بالعقيدة، وقيد تداول الأموال بالإرث، وزعمت أنها براء من كل هذه (النقائص) لأنها تقول: كل شيء مشاع، وكل أمر مباح، وكل شهوة طليقة، فالمزارع والمصانع والنساء وسائل عامة للإنتاج العام، يعطى كل على حسب كفايته، ويأخذ كل على حسب حاجته.

وهكذا يزعم الشيوعيون أنهم أعلم من الله بأحوال خلقه، وأعدل منه على تقسيم رزقه، فهم لذلك ينكرون دينه، ويغيرون شرعه، ويحاولون أن ينسخوا ما خلفه الأنبياء والحكماء من الشرائع والعقائد والقيم، ليأتوا بنظام آخر لا يقصدون به العدل المطلق ولا الخير العام، وإنما يقصدون به طغيان بشر على إله، وسلطان شعب على عالم.

وما أدرى لم كتب الله على العراق الحبيب أن يكون في ماضيه وحاضره مباءة للنحل الشاذة والمذاهب الهدامة، تنبت فيه كالنبات السام، أو تفد إليه كالوباء الفاشي، ثم تنتقل منه تتهدد روح الإسلام، وتبدد شمل العروبة؟

قال القرامطة فيه بالأمس ما يقول الشيوعيون فيه اليوم: (لا حقيقة في هذا الوجود وكل أمر مباح) وكان أول من بذر هذه البذرة الخبيثة في الشرق الإسلامي بابك الخرمي فى القرن الثالث من الهجرة، ومن بعده عبد الله بن ميمون، ومن بعده الحسن الصباح شيخ الجبل، وأغروا بثمارها المحرمة عباد اللذة ورواد المنكر من ضعاف العقول وصغار الأنفس، وأمعنوا في الغنى والضلال، واشتركوا في النساء والأموال، وفى سبيل ذلك نشروا الإرهاب وبددوا النظام وزعزعوا الأمن.

***

وفي هذه الأيام تجددت في العراق البابكية باسم الشيوعية. فدعت إلى الإلحاد والإباحية جهرا بعد الخفوت، وقهرا بعد الحيلة. وأخذت تهاجم الله وكتابه، والإسلام وأهله، بسفاهات من القول البذيء والفعل الفاحش، وهي فتنة حمراء لن يحترق في لظاها إلا الطماعون الخداعون الذين أضرموها بثقاب الشعوبيين ووقود الروس، ولكن الإسلام الذي تغلب على كل نحلة وفتنة نجمتا في العراق من قبل، سيتغلب على هذه الفتنة اليوم، فإن له منبعين من كتاب الله وسنة رسوله لا يزالان يتدفقان بالصفاء والطهر، فكلما تلوثت مجاريه البعيدة، بمثل هذا الدنس أقبل الفيض الإلهي فطهر ماؤه النقي كل رجس، وجرف تياره القوى كل حاجز. (فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس

فيمكث في الأرض).

[1]  المطرقة والمنجل: شعار الشيوعية