أحمد حسن الزيات
في الجمال
-1-
ما هو الجميل؟ الجميل في إجماع الناس هو ما ينشئ في الذهن فكرة سامية عن الشيء في الطبيعة أو عن الموضوع في الفن فيبعث في نفسك عاطفة الإعجاب به. ولكن ما هي على التحديد الصفات التي تبعث اللذة وتثير الإعجاب في بدائع الفن أو في روائع الطبيعة؟ ذلك ما نحاول شرحه في شيء من الإفاضة.
الطبيعة والفن إنما يحدثان أثرها في النفس إما بالفكرة وإما بالعاطفة وإما بالشعور الصادر عن آلات الحس؛ ومن ذلك تنوّع الجمال فكان عقلياً وأدبياً ومادياً ما في ذلك شك: ففي أي الجهات إذن تتعرف النفس والعاطفة والحواس وجوه الجمال؟ إن الخصائص المميزة للجمال هي القوة، والوفرة[1]، والذكاء. والمراد بالقوة شدة العمل وحدته، وبالوفرة كثرة الوسائل وخصوبتها، وبالذكاء الطريقة الرشيدة المفيدة لتطبيق هذه الوسائل. ولا جدال في أن الحواس ليست كلها أهلاً لنقل هذه الخصائص الجمالية الثلاث، وإنما ينفرد منها السمع والبصر بنقل أحاسيسها نقلاً قوياً يثير الدهش والإعجاب واللذة. أما الانفعال الذي يأتيك عن طريق الشم والذوق واللمس، فلا ينشأ عنه فكرة ولا عاطفة؛ لأن الطعوم والروائح، والملوسة والخشونة، والصلابة واللدونة، والحرارة والبرودة، أحاسيس بسيطة عقيمة، قد توقظ في النفس ذكرى خابية أو عاطفة غافية، ولكنها لا تنتج واحدة منهما. وإذا كان البصر آلة الجمال الحسي أو المادي، والسمع آلة الجمال العقلي والخلقي، فإن في هاتين الحاستين الدليل على خصائص الجمال الثلاث. ذلك لأن أجمل ما يؤثر في العين والأذن هو ما بلغ من القوة والوفرة والذكاء أسمى غاية. وجمال الأشياء إنما يتفاضل فيهما بمقدار ما يشتمل عليه من هذه العناصر؛ وكلما غاب عنصر منها أو قل، ضعف فينا الشعور بالجمال على نسبته. ما الذي يجعل لعملي النفس وهما الفكر والإرادة هذه الصفة التي تملك اللب في العبقرية والفضيلة؟ لا شيء غير القوة والوفرة والذكاء، سواء أ كان ما تعجب به براعة الصنع أم مهارة الصانع. إن الطِّيبة في ذاتها فضيلة؛ ولكنها لا تكون جميلة إلا إذا اقترنت بالقوة. فسقراط في الحكماء، وعمر في الخلفاء، مثلان سائران في جمال الخلق؛ ولكنك إذا جردت أخلاقهما مما ينبئ عن القوة وخواصها من الصدق والصبر والشجاعة والسمو، ذهب الجمال وبقيت الطيبة. إذا صنعت المعروف في صديقك وعدوك كان الفعل كريماً في الحالين؛ ولكنه في الصديق عادى لأنه بسيط سهل، وفي العدو ممتاز لأنه عظيم شاق؛ وفي هذه القوة التي تقتضيها تلك المشقة كان جماله. إن وفاء السموءل بدروع امرئ القيس فضيلة؛ ولكن اقترانه بالقوة على تضحيته بابنه جعله آية في جمال الوفاء. وإن تنفيذ بروتوس[2] عقوبة الموت في أحد المجرمين عادة مألوفة؛ ولكن تنفيذه إياها في بنيه الذين ائتمروا برومة مثل نادر الجمال البطولة. وموقف هكطور[3] مع أندروماك، وموقف أسماء بنت أبى بكر مع ابن الزبير، لا يقلان جمالاً عن ذينك الموقفين. وسر الجمال في كل ذلك إنما هو تلك القوة الخارقة في تغليب فكرة الواجب على عاطفة البنوة.
كذلك الحال في أعمال الذهن. فحل معضلة في الهندسة، وكشف عظيم في الطبيعة، واختراع عجيب في الميكانيكا، ونظام محكم الوضع في التشريع، وقطعة قوية التفكير والتصوير في الأدب، كلها أعمال جميلة لأنها تستلزم نصيباً موفوراً من الذكاء، وقوة عظيمة في التفكير. وشعور المرء بالجمال فيها موقوف على إدراك القوة التي تقتضيها. فالعامي أمام الأحرف الهجائية، والتلميذ أمام منطق أرسطو، لا يجدان فيهما من الجمال ما يجده الفيلسوف، لأنه يدرك ما اقتضياه وتضمناه من الذكاء والقوة.
أما في البلاغة والشعر فأبين خصائص الجمال الذكاء والوفرة. فتزاحم العواطف، وتكاثر الصور، وتوافر الأفكار، ثم اتساع الخواطر بالذهن النير الذي يحييها ويقويها ويستولدها، وغزارة اللغة وخصوبتها وقدرتها على أن تعبر عن العلاقات الجديدة للحياة، أو على أن تفيض من الحرارة والقوة على الحركات المختلفة للنفس، كل أولئك يملأ شعاب القلب بالإعجاب ؛ وذلك الإعجاب الذي نحسه هو عاطفة الجمال
***
وشأن الجمال في المادة لا يختلف عن شأنه في الفكر والعاطفة. فإنك إذا رحت تبحث في الطبيعة عن الصفة العامة للجمال لم تجدها غير القوة أو الوفرة أو الذكاء. ففي الحيوان تجد هذه الصفات الثلاث مجتمعة ومتفرقة: ففي جمال الأسد القوة، وفي جمال الطاووس الوفرة، وفي جمال الإنسان الذكاء. ولا أقصد ذكاء الإنسان في نفسه، إنما أقصد ذكاء الطبيعة[4] في تهيئته وتثقيفه. وذكاء الطبيعة معناه مطابقة طرائقها لصورها، وملاءمة وسائلها لغاياتها. فغايتها من الرجل غير غايتها من المرأة، ولذلك اختلفت الوسائل في الزوجين، وتباين مقياس الجمال في الجنسين. أرادت الطبيعة من الرجل أن يعمل ويقاتل ويحمى زوجه ويعول أسرته، فزودته بما يحقق هذا المراد ويمضي تلك الإرادة: تركيب وثيق محكم تنم ملامحه على السرعة والمهارة والقوة والشجاعة، وجسم متجاوب الأعضاء متناظر الشكول ومتوازن الأوضاع يصلح لكل عمل ويقدر على كل حركة ويستقيم على أي صورة، وسمات من الشهامة والجرأة والحنان والحساسية تفيض من العيون وتنتشر على الوجوه وتختلج على الشفاه، وجملة من الصفات الخلقية والجسمية تؤلف في الإنسان مزايا الجمال المذكر؛ فإذا قلت رجل جميل كان معنى ذلك أن الطبيعة وهي تكوّنه عرفت ما تفعل، وفعلت ما تريد.
-2-
لعل جمال المرأة أبرع مثل للجمال الطبيعي لو تدبرته. وسر الإعجاب فيه هو سر الإعجاب في جمال الرجل: أعنى الذكاء. والذكاء كما قلت إبداع الوسائل الملائمة للغاية، ثم تطبيق هذه الوسائل على غايتها في نظام دقيق محكم. فأنت لا تستطيع أن تفقه جمال المرأة إلا إذا وقفت على حكمة الله فيها وغرض الطبيعة منها؛ وأدركت ما بين طبيعة خلقها وعلة وجودها من المواءمة التي تسترق الأفئدة وتدق على أفهام البشر.
فالعلة الغائية لخلق المرأة هي أن تكون زوجة وأما؛ وسبيلها أن تروق الرجل وتدمِّث خلقه وترقق طبعه ليسكن إليها ويُشبل[5] عليها بالمعونة والنجدة. وسكون الزوج إلى زوجه تدبير إلهي يقوم عليه بناء المجتمع وبقاء النوع، لأن المرأة وهي زوج تحمل أو أم ترضع، لا تملك لنفسها ولأولادها غذاء ولا حماية؛ فما دام الولد في حاجة إلى أمه، فالأم في حاجة إلى أبيه. ولكن غريزة الاستقرار والاستمرار في الرجل ضعيفة، فلا بد لهذا الوحشي الشريد من صلة أخرى غير صلة الدم تحبسه على زوجه وتعطفه على بنيه. والحب وحده هو الذي مكن الطبيعة من هذه البغية. فبفعل الجاذبية سكن النافر، وبسحر الجمال ثبت العزوف[6] وللحب خصيصتان قويتان: الرغبة والحشمة. ومن ذلك كان جمال المرأة داعي الرغبة خافض الجناح حي الطبع. والرجل مزهو على المرأة يُدل بحيازته لها ويتعزز بقيامه عليها. فهو يريدها (ريحانة لا قهرمانة)، وحبيبة لا جليبة[7]. لها سلطان ولكنه رفيق، وفيها إباء ولكنه رقيق. ومن ثَمَّ كان جمالها مزيجاً من الوداعة والعزة، وخلطاً من الضعف والدلال، وطباقاً من الهيبة والنبل.
وجمال المرأة يحتفظ بدوامه وسحره ما دامت له روح من العاطفة تشع في نظراتها، وتنسم في بسماتها، وتشيع في قسماتها، وتنشر أضواءها السحرية على أعصاب الرجل – وهو بطبعه ولوع – فيتمتع بنعمة اختياره ولذة إيثاره، ويجد في الضعف الذي يستسلم ويستكين، الحب الذي يطول ويحكم إن شبهة الخداع والتصنع تودي بكل شيء. لذلك كان في مخايل الطيبة التي تحسن وهي تجهل، وفي سمات الظرف الغرير الذي يتراءى وهو يختفي، وفي أسرار الهوى المكتوم الذي تفضحه البسمة الحنون من شفة مطبقة، وتعلنه الومضة الخاطفة من نظرة حيية؛ وفي دلائل الملامح المعبرة في الوجوه التي تقول وهي تنصت، وتريد وهي ترفض، كان في كل أولئك بلاغة الجمال. فإذا أصيب الحب بالفتور ابتلى الجمال بالخرس.
وسلطان المرأة القوى على قلب الرجل إنما يأتيها من ذلك الذكاء المستسر ترعاه معه وفيه على غير علمه. فكان من مزايا جمالها أيضاً أن تلوح هذه البصيرة الدقيقة على أسرة وجهها، وتشرق على الأخص في تلك النظرة الوديعة التي تتغلغل في طوايا القلب فتنسخ ظلال الفتور وتبدد ظلام الكتابة وتشعل حمود الحب.
ومن خصائص جمال المرأة الاحتفاظ بالقلب الذي تصبّاه وسباه. ووسيلته أن يطرد السأم عنه ويجدد الشوق فيه، فيعير العادة المملة ألوان الجدّة، ويقبس الحياة الرتيبة حرارة التنوع. وذلك هو السر العجيب الذي وضعه الله في الجمال النسوي، فيتكرر ولا يُمل، ويستعلن ولا يُفهم، ويتجدد ولا يتناهى، ويتنوع ولا يختلف، ويتولد ولا يبيد!
***
إن في خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، والفلك التي تجرى في البحر بما ينفع الناس؛ وإن في تجميع النهر، وتكوين الجبل، وتصريف الريح، وإثارة البحر، لجمالاً رائعاً يجري في كل شعور، ويستولى على كل قلب؛ لأنه يعلن القوة الخارقة؛ والقوة أروع خصائص الجمال وأشدها أخذاً بمدارك الحس. كذلك تجد في صغار الأشياء مفاتن للجمال الطبيعي تهز النفس وتصبى المشاعر. فورقة الزهرة، وجناح الفراشة، يبعثان في قلبك من الإعجاب ما يبعثه الطود المتوَّج بالثلج، والمحيط الملفَّف بالعاصفة؛ ولكن خصيصة الجمال في الزهرة والفراشة هي وفرة الألوان، ونصاعة الأصباغ، وتعدد الصور. وخصيصة الوفرة أضعف من خصيصة القوة لتأثرها بالذوق وخمودها بالإلف والعادة.
ولعل خصيصة الذكاء أخفى الخصائص الجمالية جميعاً، لأن مرجعها إلى التأمل والفهم؛ وهذان لا يتيسران في كل وقت ولا لكل أحد. فالبركان والإعصار يروعان القلب بالقوة المجردة؛ ولكن الجمال إذا قام على خصيصة الذكاء وحده وهي الترتيب والمواءمة والانتظام، خبا أثره في الناس إلا إذا كان محسوساً شديد الغرابة. أليس الواقع أن براعة القدرة وسر الإبداع هما سواء في العظاية[8] والأسد، وفي القصبة والدوحة؟ ولكنك تعجب بالأسد والدوحة ولا تكاد تأبه للعظاية والقصبة، لأن سلطان القوة غالب وسحر العظمة عجيب.
فاجتماع الخصائص الثلاث إذن ضروري لحصول الجمال الصحيح في مشاهد الطبيعة وروائع الوجود.
-3-
إذا عرفت الجوهر الذي يتحقق به الجمال الطبيعي سهل عليك أن تعرف الجوهر الذي يقوم عليه الجمال الصناعي لأنه إما وحيه وإنما نموذجه. فالجمال الصناعي يتعلق بالفكرة التي يوحيها إليك الفن عن الفنان ثم عن الفن نفسه إذا كان ابتكارياً، وبالفكرة التي يوحيها إليك الفن عن الفن نفسه وعن الفنان ثم عن الطبيعة إذا كان تقليدياً. ولننظر بادئ الأمر فيم تنشأ منه عاطفة الجمال في الفن الابتكاري كالريازة[9] مثلاً. ففي أى بنية من البنايا تجد الوحدة والتنوع والترتيب والتناظر[10] والتناسب والتوافق تؤلف كلاً منتظماً ما في ذلك شك. ولكنك لا تجد في ذلك الكل جمالاً إذا لم يكن من العظمة أو الوفرة أو الذكاء على درجة تثير في نفسك الإعجاب والدهش. وهل تجد في العمارة البسيطة مهما اتسق بناؤها واتفقت أجزاؤها ما تجد في معابد الفراعين من الجمال والجلال والروعة؟ خذ بنظرك قصراً من قصور القاهرة الحديثة شيد على قدر عادى من العناصر الجمالية الثلاثة، ثم أطل الوقوف أمامه ما شئت، تجد الفن فيه نازلاً على حكم القواعد الموضوعة ولكنه على صامت لا يحدثك لا عن نفسه ولا عن صانعه. ثم قف تلك الوقفة أمام معبد الكرنك أو هيكل الأقصر أو هرم الجيزة، تجد نفسك المسبوهة المشدوهة موزعة بين سمو الفن في ذاته وعظمة الفنان في حقيقته. لا جرم أن هذه الأبنية الضخمة الفخمة أقل تناسقاً وتوافقاً من تلك ؛ ولكن القوة التي أقامت هذه الأعمدة ورفعت تلك الصخور ونصبت هذه التماثيل وصنعت تلك المحاريب؛ والوفرة التي تراها في الشكول المختلفة والصور الناطقة والرسوم الدقيقة والكتابة الرمزية والأصباغ الحية والمادة العجيبة؛ والذكاء الذي يروعك في ابتكار الوسائل الميكانيكية لنقل هذه الأجرام الهائلة من مناحتها في الجبل إلى مثابتها في الجو لتصارع الفناء الذى لا يفتر وتضار ع الدهر الذي لا يبيد؛ هي التي حققت فيها ذلك الجمال، وألقت عليها هذه الروعة، وربطت في ذهنك بين فكرتك عن الصنيع وفكرتك عن الصانع. ولو كانت نسبة الذكاء فيها على مقدار نسبة القوة، لبلغت ما لم تبلغه نواطح السحاب الأمريكية من الغاية التي ينقطع دونها الدرك!
على أن الجمال الطبيعي قد يقوم في بعض مظاهره على القوة والوفرة دون. الذكاء كما ترى في العواصف والبراكين، ولكن الذكاء إذا أَعْوَز في الفن الصناعي ذهبت عاطفة الجمال فيه بدداً بين التنافر والغرابة، إذ الطبيعة مجهولة الأسرار محجوبة المقاصد؛ وقد استراحت عقولنا منذ النشأة إلى أن تلتمس لجهالتها العلل، وتفترض لسفاهتها الحكمة. وليس كذلك الفنان، فإنه مسئول أمام العقل عن العلة التي أجهد من أجلها قوته، والغاية التي بدد في سبيلها ثروته. وحسبه من الذكاء ما ينفي عنه العبث. فإذا تيسرت له عظمة القوة في ظاهر من النظام كفاه ذلك في إنشاء الإعجاب واتقاء النقد، لأن القوة والوفرة هما المصدران الأولان لنشأة الجمال في الفن.
على أن فكرة القوة تختلف اختلافاً شديداً عن فكرة الجهد؛ فكلما قلت الدلائل على هذه، كثرت الدلائل على تلك. فالخفة والظرافة والأناقة والسراح من صفات الجمال، لأنها تظهر من القوة أكثر مما تظهر من الجهد؛ ولكن إنشاء مقامة من الحروف المعجمة أو الحروف المهملة كما صنع الحريري، أو كتابة سورة من القرآن على حبة من الرز كما صنع الخطاط السوري، عمل لا يحدث في النفس شعور الجمال لأنه يدل على الجهد أكثر مما يدل على القوة، ويدعو إلى الرثاء أكثر مما يدعو إلى الدهش. وفي التفصيل المحكم من كلام الله، وفي السهل الممتنع من كلام الناس، كل الفروق بين القوة والجهد.
كذلك لا يستعجم الفرق بين الوفرة الصناع وبين الزخرف الأخرق. فإن سر الإبداع في الوفرة أنها تضع اللون في مظهره، والحسن في جوهره، والمعنى في لفظه، والشيء في مكانه. أما الزخرف الأخرق فسرفٌ لا ينبئ عن غنى، ورهق لا يسفر عن قدرة، ولجب لا يبلغك من ورائه نغم! هو كل ما يملك الصانع من ثروة نثرها أمام عينيك في غير لباقة ولا تحفظ، ليخفي بالرياء حقيقة العجز، ويدفع بالزور تهمة العوز. وفي فن الحريري والقاضي الفاضل ومن لف لفهما المثال على ذلك.
***
إن ما قلته في الريازة ينطبق على الخطابة والموسيقى وسائر الفنون الابتكارية التي تفصح عن قوى كبيرة ووسائل وفيرة. فالخطيب الذي يبلبل الآراء بقوة كلامه، ويسترقُّ الأهواء بسحر بيانه، ويملك على الشعب نوازع القلوب فيرسله على رأيه ويصرّفه على إرادته، قد أوتى من القوة في الفن والعبقرية ما يحمل النفوس على الإعجاب بقدرته والانقياد لأمره. كذلك الموسيقى الذي يصبى المشاعر بسحر أنغامه، والشاعر الذي يسبى العقول بقوة أسلوبه وسمو إلهامه، كلاهما يعلن الجمال في قوة الفن التي يفرضها، وفي وفرة الوسائل التي يعرضها، وفي ذكاء الروح الذي يفيض على عمله النظام والانسجام والمناسبة. والقوة والوفرة هما كذلك روح هذا الجمال وسره. فإذا كان الانفعال الذي ينشئه الصوت أو القصيدة لطيفاً يحدث اللذة ولكنه ضعيف لا يحدث الطرب، مدحت قريحة الفنان وأطريت عذوبة الفن؛ ولكن الإطراء شيء آخر غير هتاف الإعجاب الذي يبعثه سمو العبقرية وقوة الإلهام في روائع الموسيقى وبدائع الشاعر.
-4-
ذلك إجمال القول في الفن الصناعي المرتجل. أما الفن الصناعي المنقول فالسر فيه أن يبعث في ذهنك فكرتين: فكرة عن الطبيعة المقلدة، وفكرة عن الفنان المقلد. فتماثيل فدياس[11]وصور رفائيل[12] تجمع بين الجمالين: جمال المثال في أصله، وجمال الفن في تقليده. كذلك في وصف مغرب الشمس لابن الرومي نجد الإعجاب الناشئ عن القوة والوفرة والذكاء موزعاً بين الصورة الناطقة التي أبدعتها الطبيعة، وبين المحاكاة الصادقة التي أخرجتها القريحة.
***
إن روعة الجمال الطبيعي آتية من ناحية الحرية في الطبيعة. وحرية الطبيعة هي قانونها العام، لا تقوم عظمتها إلا به، ولا تتجلى فخامتها إلا فيه. فالغيضة اللّفّاء أجل مظهراً في النفس من الحديقة المنمنمة، وشلالات النيل أجمل منظراً في العين من النوافير المنظمة؛ لأن الجمال المطلق يملأ خيالك بالتأمل الحالم، وذهنك بالتفكير الرفيع، وشعورك بالطرب الباسط. ومظنة العبودية في الحي أو في الجماد تضيف إليه معنى من الحقارة والقبح يحطه ويشوهه. ولكن الجمال الصناعي لا بد أن يتقيد بالقواعد ويتحدد بالأصول. فإذا لم يكن الفنان من البراعة بحيث يخفي تلك القيود ويحجب هذه الحدود ويظهر السمة الدالة على الطبع المرسل والإلهام الحر، همدت في فنه الحياة، وخبا في جماله السحر، وضاقت في عمله الفكرة.
ليس الجمال في الفن المعنوي أو الحسي أن تحاكي الطبيعة محاكاة الصدى وتمثلها تمثيل المرآة، وتنقلها نقل الآلة. تلك هي التبعية التي تنفي الذكاء، والعبودية التي تسلب القوة. إنما عظمة الفن أن يفوق الطبيعة. وإنما براعة الفنان أن يزيد في ترتيب صورها بالذكاء، وفي تنويع تفاصيلها بالوفرة، وفي توجيه مقاصدها بالعظمة، وفي بيان تعبيرها بالحياة، وفي سلطان تأثيرها بالقوة، وفي حقيقة وقائعها بالسحر الموهم والوشي الخادع.
أنظر إلى تعاجيب الطبيعة وتهاويل الفلك من العواصف والصواعق والبراكين، تجدها في ذاتها جليلة رائعة، ولكنك تجدها في فن الشعراء والمصورين والمثالين أجل وأروع. لقد وضعوا فيها شهوات النفوس، وسلطوا عليها تصادم الأهواء، وصوروها للأذهان في عالم من الآلهة الكَمَلَةِ في قواها المختلفة، تتنافس في العجائب، وتتصارع بالأهوال، وتتفانى على اللذة. وسحر الفن الإغريقي في صمته وفي نطقه قائم على تجميل الظواهر المروعة في الطبيعة، بالنوازع المتضاربة في النفس.
ومن المعلوم في بدائه العقل أن يكون ما يقلده الفنان في الطبيعة حقيقاً بالتقليد حتى يمكن الجمع بين جمال الشيء في أصله، وبين جماله في نقله. فالمصور الذي يرسم وضعاً من أوضاع الرأس، أو معنى من معاني الوجه، أو لونا من ألوان الحياة، يكون أسمى في الفن من المصور الذي يتحامل على براعته حتى يصور أرنبا تكاد من دقة التقليد أن تلحظ وثبته وتعد وبره. والشاعر الذي يصف عاطفة من عواطف القلب، أو ظاهرة من ظواهر الكون، يكون أبلغ في فنه من الشاعر الذي يجهد قريحته في وصف حادثة من هنوات الحوادث لا تقوم في ذاتها على
فائدة ولا لذة.
قد يكون الشيء المنقول في حقيقته قبيحاً؛ ولكن صدق التعبير عنه ودقة التصوير فيه والتماس المنفعة منه تجعل تقليده جميلاً؛ كالوجه الشتيم[13] يرسمه المصور المبدع بريشته، والخلق الذميم يصوره الشاعر المفلق بقامه. والملهاة المسرحية موضوعها رذائل الناس ونقائص المجتمع، ولكنها ارتفعت إلى أوج الفن الجميل بتحليلها العميق وتصويرها الدقيق وغايتها النبيلة. كذلك الحوادث المؤلمة والمناظر المحزنة والمواقف المؤثرة ليس فيها من الجمال شيء؛ ولكن استبطان الفنان لدخيلة البائس، وتصويره الفاجعة ماثلة مثول الواقع، وإعانته الحقيقة على التأثير بالجمل النفاذة والصور الأخاذة والظلال الرهيبة، يجعل تقليدها من أجمل الأشياء، ويضع المأساة من الفن موضع الواسطة من العقد.
فأنت ترى أن التقليد لا يثير الإعجاب في نفسك ولا يُشيع اللذة في شعورك إلا باعتماده على الفن. والفن لا يتحقق جماله إلا بالعظمة في عمله، والسعة في وسائله، والحكمة في غايته. فإذا قلدت أصوات الطبيعة من غير تأليف ولا تنسيق ولا معنى، وأقمت شلالاً من الماء والحجر تضارع به شلال أسوان، وسردت بالكلام الموزون حادثة عادية من حوادث اليوم، أخطأك الفن وانزوى عنك الجمال؛ لأنك صغرت الطبيعة وحقرت الواقع وتعلقت بالتافه واستعنت بالمادة من غير قوة ولا ثروة ولا علة. ولو أنك رحت تستقرى مفاتن الجمال في الطبيعة أو في الفن، أو في الأثر الذي ينشأ من ائتلاف الطبيعة والفن، لما وجدتها في غير ما يعلن القوة والوفرة والذكاء مجتمعة أو متفرقة.
ولعلك واجد ما يدعم هذه الفكرة عن الجمال في قول (شيشرون): “إن الطبيعة أبدعت الأشياء على صورة تجعل ما يكون منها جم المنفعة يكون كذلك جليل المكانة موفور الجمال. إن جلالة هذا المعبد نتيجة لازمة لمنفعته. فلو أنك تخيلت (الكابتول)[14] قائماً في السماء على هام السحب، لما وجدت له جلالاً في نفسك ما لم يكن قيامه هناك علة لسقوط المطر”.
وهل المنفعة التي أرادها شيشرون في صنع الطبيعة وفي نتاج الفن إلا الذكاء الذي أردناه في الجمال وقصدنا به حكمة الغرض وانتظام الخطة؟
[1] الوفرة: مصدر وفر الشيء إذا كثر واتسع وتم وكمل
[2] بروتوس امبراطور روماني حكم من سنة ٢٧٦ إلى سنة ۲۸۲.
[3] موقف هكطور مع زوجته أندروماك وهى تخزله عن الحرب ليعيش لولده من المواقف البليغة المؤثرة في الالياذة
[4] نريد بالطبيعة ما يقابل الفن. والفن صنع الإنسان، كما أن الطبيعة صنع الله
[5] أشبل عليه: عطف
[6] العزوف: المنصرف عن الشيء الزاهد فيه
[7] القهرمانة: الخادم، والجليبة: الجارية المجلوبة
[8] العظاية دويبة ملساء تشبه سام أبرص (السحلية). والقصبة كل نبات يكون ساقه أناييب وكعوناً كقصب السكر، والدوحة الشجرة العظيمة المتسعة من أى نوع.
[9] فن العمارة
[10] السيمترية
[11] فدياس أشهر المثالين الاغريق في العهد القديم. ولد بأثينا حوالي عام ٥٠٠ وتوفي عام ٤٣١ ق. م
[12] رفائيل سانزيو أشهر مصوري الرومان القدماء وأقوى عبقرية نبغت في عصر الاحياء. ولد بأربينو سنة ١٤٨٣ وتوفي سنة ١٥٢٠
[13] الشتيم: القبيح
[14] الكابتول: معبد وقلعة أقيما على هضبة من هضاب روما السبع.