أول ما عرفت الأدب….
أحمد حسن الزيات
كان ذلك وأنا في الحادية عشرة من عمري حين حفظت القرآن وأحسنت القراءة وجودت الخط استعدادا للانتساب إلى الأزهر. والأزهر يومئذ هو المعهد العلمي الذي كان الريفيون لا يعرفون غيره، ولكنني حتى ذلك الحين لم انتفع بما أحسنت من القراءة والكتابة، وإنما كان ينتفع بهما (سيدنا الشيخ حسن) معلم الكتاب الضرير، فقد كان يكلفني بعد انصراف الصبيان أن أكتب له التمائم للممسوسين والمرضى من أهل القرية، وأن أحفظه قصيدة البردة ليتزعم بها المنشدين أمام الجنائز.
لم يكن في دارنا غير كتابين كان أبي يقتنيهما للبركة: كتاب الله وأنا أحفظه عن ظهر قلب، وكتاب آخر كانوا يقولون إنه البخاري ولا يسمحون لي بالاطلاع عليه. فلما استقر رأى الأسرة على أن يزوجوا أخي الأكبر امتلأ دولاب المنظرة بالكتب في يوم وليلة. وسبب ذلك أن تقاليد الريفيين في تلك الأيام كانت تقضى عليهم أن يبدأوا العرس قبل ليلة الزفاف بثلاثة أسابيع على الأقل، ولم يكن أهمّ ما يشغلهم في هذه المدة «شوار» العروس أو ثياب العريس فقد كانا لضآلة شأنهما أهون الأمور، إنما كان شغلهم الشاغل فيها طحن الأرادب من القمح التي أرصدوها لوليمة الفرح. وكانوا يطحنونها قبل أن تخترع المطاحن الآلية في الطاحون التي تديرها الدواب، وهي تساقط القمح من القادوس حبتين حبتين، فلا تطحن الكيلة إلا في ساعتين. لذلك كانت مدة الطحن تطول وتمل فاقتضت الحال أن يقصروا طولها باللعب ويدفعوا مللها باللهو، فكان أهل القرية يجتمعون في دار العريس كل يوم آخر النهار وأول الليل، فيلعب الفتيان (الصينية والخاتم)، وتغنى الفتيات على الطبلة والأرغول، ويجلس الكهول والشيوخ في الساحة حول الشيخ منصور فينشدهم بصوته الندى الأجش أشعار
بني هلال أو أخبار عنترة.
اشترى أبي لليالي الطاحون الساهرة قصة سيف بن ذي يزن، وسيرة عنترة بن شداد، وألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، وانعقد السامر لسماع المختار منها حول القارئ الممثل قرابة شهر، وكنت في الصبيان القلال الذين فضلوا سماع القصص والشعر على سماع الغناء والموسيقى. وكان مجلسي بجانب الفانوس الذي يقرأ الشيخ منصور على ضوئه، فكنت أرى كيف يصور العواطف على قسمات وجهه، ويمثل المواقف بنبرات صوته، فأهتز لحماسة الأداء، وأطرب لطلاوة العبارة، وألتذ من جاذبية القصة، فإذا انفض السامر بقيت الصور والأشخاص والمواقع ماثلة في ذهني مثول الحلم الجميل بعد اليقظة، تتسع وتنمو وتتلون فتحرك في نفسي رغبة الاستزادة وشهوة المحاكاة. وأخذ هذا الأثر يقوى ويزداد ليلة بعد ليلة وقصة بعد قصة، حتى مضت أيام الطاحون ولياليها، وانقضت ملذات العرس ومباهجه، فعادت الكتب إلى الدولاب، وانقلب كل أمرئ إلى شأنه، إلا أنا فقد عدت إلى سيف بن ذي يزن، أقرأ ما بقي من أجزائه، وأعيد ما أعجبني من وقائعه.
وكان في حارتنا رجل من الصالحين تنفس به العمر حتى لفَّع الشيب رأسه ولحيته. وكان الشيخ عطا هذا قد كف بصره على الكبر بعد أن غامر في خضم الحياة بالمجداف والقلع، فجند في قوة السودان، وسخر في حفر القناة، وعمل في (جفلك) على شريف، حتى قيدته الشيخوخة عن السعي، وكفاه ابنه الوحيد وابنتاه تكاليف العيش فانقطع إلى الله.
كان أزهر اللون كالترك، سبط الجسم كالعملاق، سليم الصدر كالطفل وكان أميا على الفطرة، ولكنه كان مجبولا على نوع من الذكاء الهادئ والمنطق الرزين، فتعلم بالتجربة، وتأدب بالسماع، واستفاد من كثرة النقل ومن طول الأجل فحصل جملة مما سار على الأفواه من الأمثال والأزجال والأقاصيص، فإذا حكاها نسب كل مثل إلى لقمان، وكل زجل إلى ابن عروس، وكل نادرة إلى جحا. وكان أنس الحارة من الوحشة وأمنها من المخافة حين يخرج أهلوها مبكرين إلى الحقول ويبقى هو في مجلسه للهيب أنيس الطلعة بين ملعب الأطفال ومقعد النسوة. كانت زوجه العجوز ورد الشام تفرش له الحصيرة أمام الدار في ظل الجدار وتضع على رأسها المخدة الغليظة ومن ورائها القلة الحمراء، ثم يأتي هو بعد صلاة الضحى أو بعد صلاة العصر من المسجد يدب على عصاه حتى يبلغ مجلسه المعهود فيخلع بُلغته على طرف الحصيرة، ويلقى عكازته بجانب الحائط، ثم يجلس في سكون وصمت، فلا يتحرك إلا ليطرد ذبابة، ولا يتكلم إلا ليرد تحية.
وكان كلما جلس هذه الجلسة حدثت حركتان متضادتان في وقت واحد: يبتعد الأطفال حتى آخر الحارة ليأمنوا شر زوجته، ويقترب كلبه الأبقع الضخم حتى يربض بجانب بُلغته.
سمع صوتي ذات يوم فدعاني. فلما أقبلت عليه قال: إنك ختمت القرآن، ولا بد أنك فككت الخط، فهات قصة عنتر وتعال.
وصادف هذا الطلب هوى في نفسي فذهبت إلى الدولاب، ورجعت إليه بالجزء الأول من هذا الكتاب، وقعدت بإزائه وجعلت أقرأ.
كنت أتعثر في أول الأمر فأتوقف ولا أنطلق، ويتخلف ذهني عن لساني. فأقرأ ولا أفهم. وكانت الجملة تستغلق على فهمي وفهمه فيستعيدها حتى تتفتح على صواب أو خطأ. وكان قد سمع القصة مرة أو مرتين في عمره الذاهب فعرف أعلام الأشخاص وأسماء الأماكن وأسباب الحوادث فكان يوضح ويصحح على مقدار علمه.
لذتني القصة وأعجبني الأسلوب وسحرني الشعر فملأت فراغي كله بالقراءة له، حتى انتهينا من عنترة وبدأنا في ألف ليلة وليلة. وكان يضيق صدره بالشعر فيطلب منى أن أتركه، ولكنني كنت أستاذه وأستسيغه فأعود إليه وحدي فأنظر فيه وأحفظ منه.
وقضيت أنا وشيخي عطا سنة على هذه الحال قرأنا فيها القصص الشعبية كلها. قصارها وطوالها، والقصص تتكرر أو تتشابه، فحفظت الكلمات والتعابير، وفهمت الاستعارات والتشابيه. ثم أحسست أن فراغا في رأسي قد امتلأ ويريد أن يفيض، وأن أجنحة في مخيلتي قد ارتاشت وتهم أن تطير، فبدأت أنظم الشعر! أستغفر الله! أكتبه ولا أنظمه، فإن النظام يقتضي الوزن، والبيت الذي كنت أقوله لم يكن له من الشعر إلا بياض في وسطه وقافية في آخره.
واطلع على شعري المقفى غير الموزون عمدة القرية، وكان رجلا صافي الذهن، لطيف الحس، يدمن القراءة والدرس، ويولع بالأدب والتاريخ، فشجعني على النظم في كل مناسبة، وعلى الانشاد في كل حفلة! وصدق أبي رحمه الله أني شاعر فأهدى إلي ديوان المتنبي، فكان أول كتاب اقتنيته، وأول شاعر أحببته.
أما النثر فلم ألق بالى إليه إلا بعد عام من محاولتي للشعر حين أصدرت في القرية مجلة عنوانها (الانتقاد) وموضوعها مدح العمدة وذم خصومه بالمقال والقصيدة والزجل. كنت أكتب منها نسخة واحدة بيدي، وأقرؤها للمشتركين بنفسي، ثم توقفت بانتقالي إلى القاهرة عند عددها الرابع.
وهكذا دخلت الأزهر وأنا كبعض الأدباء اليوم: شاعر لا ينقصني إلا العروض، وكاتب لا يعوزني إلا النحو!
ولعلى بعد ما أفدته من القصص الشعبية التي كونت ملكتي الأدبية لم أفد من علوم اللغة وكتب الأدب إلا ضبط أسلوبي بالقواعد، وتوسيع لغتي بالاطلاع، وترقية ذوق بالنماذج الرفيعة.