کاتب: سعادت حسن منتو
مترجم: حامد رضا
لغة المصدر: الأردية
“كان الحوذي منو يعتبر ذكيا جدا في موقف عربات الحنطور بالرغم أنه كان صفرا في التعليم النظامي ولم يتوجه إلى المدرسة قط، ولكن كان يعلم جميع أشياء العالم وجميع الحوذيين في الموقف الذين أرادوا أن يعرفوا عن أحداث العالم، راجعوا الرئيس منغو واستفادوا من معلوماته الواسعة.”
وفي الأيام الأخيرة عندما سمع إشاعة من راكب عن نشوب حرب في إسبانيا، ربت على كتف تشودهري[1]غاما العريضة وتكهن بلهجة مفكر: “سترى يا تشودهري أن الحرب ستنشب في أسبانيا في أيام”.
ولما سأله تشودهري اين تقع إسبانيا؟ أجابه الرئيس منغو بجدية: “في أوروبا، وأين؟” في الحقيقة نشبت الحرب في إسبانيا، ولما عرف الناس عنها، فإن جميع الحوذيين الذين كانوا يدخنون النارجيلة جالسين في شكل حلقة، اعترفوا بعظمة الرئيس منغو في باطن قلوبهم. بينما كان الرئيس منغو يسوق عربة الحنطور له على السطح اللامع لشارع مول، ويتبادل الآراء مع راكبه عن الاضطرابات الطائفية الحديثة بين المسلمين والهندوس.
ولما جاء الرئيس في ذلك اليوم إلى محطة عربات الحنطور وقت المساء على وجه التقريب كان مشرق الوجه على خلاف العادة. وحينما دار الكلام عن الاضطرابات الطائفية بين الهندوس والمسلمين خلال تدخين النارجيلة، خلع عمامته الرمادية عن رأسه، وقال متأبطا إياها بلهجة مفكر:
“إنها لعنة درويش على الهندوس والمسلمين أن يكونوا دائما على أهبة للقتال بالسيوف المشهرة. وقد سمعت من الكبار أن الإمبراطور المغولي أكبر ألم قديسا، فدعا عليه ذلك الدرويش غضبا، وقال: ستدوم الاضطرابات الطائفية في بلادك”. وانظروا أن الهند لا تزال تشتعل فيها نار الاضطرابات الطائفية واحدة تلو أخرى منذ أن انتهى حكم الإمبراطور أكبر، ثم تنهد عميقا، وأخذ نفسا عميقا على النارجيلة واستمر في كلامه قائلا: يريد هؤلاء الناس من حزب المؤتمر تحرير الهند من براثن الاستعمار، وأقول إنهم لو بذلوا قصارى جهودهم ألف سنة، لما تمكنوا من ذلك. والذي سيحصل أن الإنجليز سيتبدلهم رجال من إيطاليا، أو ذلك الرجل من روسيا الذي سمعت عنه أنه ذو بأس شديد. ولكن الهند ستبقى في العبودية بصورة دائمة. ونعم، قد نسيت أن أقول إن ذلك الدرويش دعا على الهند أنها تكون دائما تحت نير سلطة الأجانب”.
كان الرئيس منغو يبغض الإنجليز بغضا شديدا، والسبب وراء ذلك – هو كما يقول بنفسه – إنهم يحكمون بلاده العزيزة. ويقومون بأنواع من الاعتداءات على أهلها. ولكن أكبر سبب البغض هو أن إنجليز المعسكر كانوا يؤلمونه كثيرا. وعاملوه كأنه كلب مهين. وعلاوة على ذلك أنه لم يحب لونه البتة. كلما رأى وجوها حمراء بيضاء للإنجليز، شعر بالتقيؤ. وليس من المعلوم لماذا أكد دائما أنه كلما رأى وجوههم ذات أخاديد حمراء، تذكر الجثة التي تتنفض الطبقة العليا من جلد جسمها.
وكلما حصلت مشادة بينه وبين سكير أبيض، تكدّرت طبيعته طول النهار. وفي المساء جاء إلى موقف عربات الحنطور ودخن السيجارة من ماركة “هل”
(المحراث)، أو دخن النارجيلة وانهال على ذلك الأبيض بوابل من الشتائم.
“…….” بعد الشتائم الغليظة كان يحرك رأسه مع عمامته الفضفاضة ويقول: “جاءوا ليأخذوا جمرة من النار ولكنهم الآن تسلطوا على البيت كله (أي اغتصبوا الدولة). ضايق الناس أولاد القرود هؤلاء يفرضون الهيبة والرعب علينا كأننا خدم آبائهم….” وما خمدت نار غيظه على هذا أيضا، (وما اكتفى بهذا القدر من صب جام غضبه مادام جالسه زميل.
“أنظر إلى وجوهم… كأنهم مصابون بالجذام مثل جيف تماما” ….. وتمتم كأنه قتلهم. “وبحياتك، خطر ببالي أنني سأحطم رأس الملعون، لكنني امتنعت عن قتل ذلك اللعين لأنني اعتبرت قتله إهانتي ….” قال هذا الكلام ثم سكت قليلا وتمتم مرة أخرى بعد مسح مخاط أنفه السائل بكم القميص الرمادي:
“أقسم بالله، إنني ضقت ذرعا بتدليل هؤلاء الأمراء. كلما رأيت وجوههم النحسة، غلى الدم في عروقي يلزم تسنين قانون جديد لتخليصنا من براثنهم. وبحياتك، هذا ينفخ روحا جديدة في بدني”.
وذات يوم لما أركب الرئيس منغو راكبين على عربات الحنطور من مبنى المحكمة، وعرف من محادثتهما أن دستورا جديدا سينفذ في الهند، طار فرحا وسرورا.
أولئك المارواريون[2] الذين حضروا إلى دار المحكمة القضية مدنية، كانوا يتحادثون فيما بينهم عن الدستور الجديد أي القانون الجديد وقت عودتهم إلى بيوتهم. “سمعت أن قانونا جديدا سيطبق في الهند من أول تاريخ لشهر إبريل، هل يتغير كل شيء؟” “لا يتغير كل شيء، ولكنهم يقولون إن معظم الأشياء ستتغير، وسينال وطننا الهند الحرية.”
“هل يسنون قانونا جديدا عن الربا أيضا؟”
كان حوار هؤلاء المارواريين يوفر لقلبه مسرة لا يمكن له الإعراب عنها. كان يسب حصانه دائما ويضربه بالسوط ضربا شديدا، ولكن ذلك اليوم كان يلتفت إلى المارواريين وينظر إليهم مرارا وتكرارا، ورفع أشعار شاربه الكثيف بإصبع بطريقة دقيقة وأرخى عنان الحصان وربت على ظهره قائلا له بحنان:
امش حبيبي امش هيا اسرع مثل الهواء”.
وبعد توصيل المارواريين إلى منازلهم شرب مشروبا مثلجا مصنوعا من نصف سير زبادي من محل دينو بائع اللبن والزبادي في سوق أنار كلي وتجشأ بصوت مسموع، ثم ادخل شواربه في فمه وامتصها وقال بصوت جهوري من غير مقصود: “الله يخرب بيتك”.
لما رجع إلى موقف عربات الحنطور في المساء، لم يلق أحدا من معارفه على خلاف العادة فثار صدره مثل الطوفان، كان يريد أن يسمع أصدقاءه خبرا عظيما، إنه خبر عظيم جدا في كل معنى الكلمة. كان يود جدا لإخراج هذا الخبر من داخله. ولكن للأسف ما وجد هناك شخص من معارفه.
فبقي يذرع أرضية المحطة تحت سقف الموقف الحديدي لحوالي نصف ساعة متأبطا الكرباج. كانت أخيلة رائعة تندفع إلى ذهنه. دفعه خبر تطبيق القانون الجديد إلى عالم جديد، كان يفكر في ذلك القانون الجديد الذي يبدأ تطبيقه من أول إبريل مع إنارة جميع مصابيح دماغه. وفي نفس الوقت دوى في ذهنه خوف المارواري “هل سيتم تسنين قانون جديد عن الربا أيضا”. كان تيار من السرور يجري في جميع جسمه. ضحك مرارا تحت شواربه الكثة، وأمطر الماروارين بوابل من الشتائم وقال: “….. البق المندس في أسرة الفقراء، إن القانون الجديد سيكون لهم بمثابة الماء المغلي. (يعني القانون الجديد يضع حدا من نشاطاتهم غير المرغوب فيها.
كان مبتهجا جدا، وغمره الابتهاج كثيرا على وجه الخصوص عند تصوره أن البيض – الفيران البيضاء (كان يتذكرهم بهذا الاسم) ستغيب بفناطيسها في جحور لأبد الآبدين بمجرد تطبيق القانون الجديد. إن الإنجليز يغادرون الهند للأبد بمجرد تنفيذ هذا القانون الجديد)
ولما دخل نتو الأصلع موقف العربات متأبطا عمامته، تقدم إليه الرئيس منغو، وتناول يده في يده وأخذ يقول بصوت جهوري: أعطني يدك هنا … سأسمعك خبرا يسرك، وستنبت بمجرد سماعها الأشعار في هذا الرأس الأصلع”.
وبعد هذا الكلام، بدأ منغو يتحدث إليه عن القانون الجديد مستمتعا وأثناء الحوار ضرب يد نتو الأصلع بيده مرارا وقال: “انتظر أنت ماذا يحصل؟ إن هذا الملك من روسيا سيفعلن شيئا ما”.
كان سمع الرئيس منغو كثيرا عن النشاطات الاشتراكية لنظام سوفيت الراهن. إنه أحب القوانين الجديدة والأشياء الأخرى الجديدة لتلك البلاد. فلذلك، دمج “ملك روسيا” بقانون الهند أي الدستور الجديد. وكان يعتبر التغييرات الجديدة المتوقع تنفيذها منذ أول إبريل في النظام القديم نتيجة لنفوذ ملك روسيا.
وكانت حركة الشيوعيين ناشطة العمل في بيشاور ومدن أخرى منذ أيام. فدمج الرئيس منغو في ذهنه تلك الحركة بملك روسيا أولا ثم بالقانون الجديد وعلاوة على ذلك، كلما سمع أنه تم القبض على عدد من صانعي القنابل في مدينة كذا أو حوكم عدد من الرجال في تهمة للثورة رأى جميع هذه الحوادث مقدمة للقانون الجديد، وانفتح قلبه بشرا.
وذات يوم جلس محاميان في عربته، وتناولا القانون الجديد بالانتقاد الشديد، كان الرئيس منغو يستمع إلى كلامهما بصمت واهتمام قال أحدهما للآخر: “إن الجزء الثاني للدستور الجديد يشتمل على الفيدرالية، التي لا أفهمها، ولم يسمع ولم ير مثلها بعد في تاريخ العالم. إنما هذه الفيدرالية خطأ في خطأ تماما حسب النظريات السياسية أيضا. بل من المناسب أن نقول إنها ليست بالفيدرالية البتة”. وبما أن معظم الحوار بين المحاميين جرى في اللغة الإنجليزية، فلذا استطاع الرئيس منغو أن يفهم الجمل الأولى منها فقط وظن أن هؤلاء الناس يعتبرون تطبيق القانون الجديد في الهند أمرا قبيحا، ولا يحبون أن يتحرر وطنه. فتحت تأثير هذه الفكرة رماهما بنظرات الاحتقار مرارا وقال في باطن القلب: “أطفال متملقون”.
وكلما قال لأحد “طفل متعلق” بصوت خفيض فرح وشعر في القلب بأنه استخدم هذا الاسم في مكان مناسب وأن لديه مؤهلة للتفريق بين أناس نبلاء و”أطفال متملقين”.
في اليوم الثالث بعد هذه الواقعة أركب ثلاثة طلاب من الكلية الحكومية عربته وتوجه إلى هرنك، إذ سمعهم يتحادثون فيما بينهم:
قد زاد الدستور الجديد في أمالي كثيرا فبعد تقلد سيدي منصب العضو في المجلس التشريعي، أكيد، إنني أنال وظيفة في مكتب حكومي”. ولا شك ستكون هناك وظائف شاغرة كثيرة تعلن وإن شاء الله نتمكن من الحصول على وظائف لنا”.
“بالتأكيد”.
“ونتيجة لذلك، سيقل عدد المثقفين العاطلين عن العمل الذين يتسكعون الشوارع من غير هدف في الحياة”.
قد زاد هذا الحوار أهمية الدستور الجديد في قلب الرئيس منغو، وبدأ يراه شيئا لامعا جدا، ” القانون الجديد” وتأمل مرارا في النهار، “أي شيء جديد!” وكل مرة ظهر أمام عينيه الطقم الجديد لحصانه، كان اشتراه من تشودهري خدا بخش بعد الفحص والملاحظة الدقيقة. وكان الطقم في حال الجدة ذا مسامير لامعة مطلية بأنكال الحديد. وكانت فيه الأعمال النحاسية أيضا، التمع الطقم مثل الذهب. ومن هذا الجانب أيضا كان إشراق الدستور الجديد ضروريا.
سمع الرئيس منغو كثيرا في حق الدستور الجديد وضده حتى أول إبريل. ولكنه لم يستطع أن يغير رأيه الذي كان بناه عن ذلك. افتكر أن جميع الأمور تصبح واضحة مع تنفيذ القانون الجديد. واعتقد أن جميع الأشياء بعد تنفيذ هذا القانون ستصبح قرة لعينيه. (ستكون صحيحة وتوفر له راحة).
وفي النهاية انقضى اليوم الواحد والثلاثون من شهر مارس، وبقيت فقط ساعات صامتة عديدة في فجر شهر ابريل كان الجو باردا على غير العادة وكان الهواء منعشا. استيقظ الرئيس منغو في الصباح الباكر في أول يوم من شهر إبريل، وتوجه إلى الإصطبل وشد الحصان بالعربة وخرج. كان سعيدا جدا، وكان على وشك ملاحظة القانون الجديد.
تجول مرارا في الأسواق الفسيحة والضيقة في ظلام بارد للصباح، ولكنه وجد كل شيء كما كان قديما مثل السماء. وكانت عيونه تشتاق إلى رؤية شيء جديد على وجه الخصوص، إلا أن جميع الأشياء كانت قديمة سوى التاج المصنوع من الأرياش ذات الألوان المختلفة على رأس حصانه كان اشترى التاج الجديد من تشودري خدا بخش بأربعة عشر آنة[3] ونصف آنة في الواحد والثلاثين من مارس للاحتفال بالقانون الجديد.
وكان صوت وقع حوافر الحصان والشارع الأسود، والأعمدة الكهربائية المنتصبة على جانبي الشارع كل على مسافة قليلة من الآخر، ولافتات المحلات، وقعقعة الجلاجل المعلقة في عنق حصانه، والرجال الماشين في السوق ….. أي شيء كان جديدا بين هذه الأشياء؟ وفي الحقيقة لا شيء، ولكنه لم ييئس.
“إنه صباح باكر حقا، وجميع المحلات مغلقة.” اطمأن بهذه الفكرة، وعلاوة على ذلك، كان يظن: “إن المحكمة تبدأ عملها بعد الساعة التاسعة طبعا، فكيف له أن يرى القانون الجديد قبل ذلك؟”
ولما وصلت عربته باب الكلية الحكومية، دقت ساعتها الكبيرة الساعة التاسعة بصوت عال جدا، وكانت ملابس الطلبة الذين خرجوا من باب الكلية الكبير أنيقة جدا، ولكن الرئيس منغو وجدها شبه متوسخة بدون سبب ظاهر. لعل السبب وراء ذلك أن عيونه كانت في انتظار استطلاع مشهد جذاب وخلاب أكثر.
لفت العربة إلى اليمين، وبعد برهة قليلة دخل سوق آثار كلي مرة أخرى. كانت فتحت حوالي نصف محلات السوق، والآن ازداد تحرك الناس في السوق ازداد زحام الزبائن على محلات بياعي الحلويات. إن الحاجات المعروضة في المعارض الزجاجية في محلات الأسورة والحلي تجذب الناس للتفرج عليها، بينما وجدت حمائم جالسة على الأسلاك الكهربائية تتشاجر بعضها مع البعض. ولكن الرئيس منغو لم يرغب في جميع هذه الأشياء البتة، وكان يتطلع إلى مشاهدة القانون الجديد مثلما كان يشاهد الآن حصانه.
كان الرئيس منغو يتوقع ولادة طفل في بيته فكان بدأ يشعر بعدم الراحة منذ أربعة شهور أو خمسة قبل الولادة. كان متيقنا بأن الطفل بالتأكيد سيولد في يوم ولكنه بدا عديم الصبر لإلقاء نظرة واحدة على الطفل فقط. فليولد فيما بعد. فغلبته هذه الأمنية، ولتحقيقها ضغط على بطن عقيلته المريضة مرات، ووضع أذنيه عليه للاستعلام عن طفله. ولكنه فشل. وذات مرة أقلقته مدة الانتظار إلى حد أن صب جام الغضب على عقيلته قائلا:
“إنك تستلقين كل وقت مثل ميت قومي وامشي قليلا حتى تشعري بالقوة. فلن يفيد استلقاؤك على الفراش مثل قطعة من الخشب. فهل تظنين أنك تلدين الطفل وأنت طريحة الفراش؟”.
خلق الرئيس منغو عجولا، لم يحب أن يرى كل شيء في صورة عملية فقط، بل كان مشتاقا إليه ولاحظت عقيلته غنغاوتي مثل هذه الاضطرابات فقالت له عادة:
“لما يتم حفر البئر وأنت تتململ من السهاف” (أي لما يتوفر المطلوب وأنت تشتاق إلى حيازته)
وعلى كل، لم يكن الرئيس منغو قلقا في انتظار القانون الجديد إلى حد كما لزم أن يكون حسب طبعه خرج من البيت الملاحظة القانون الجديد، مثلما كان
يخرج لمشاهدة مواكب لغاندي أو جواهر لال.
وكان الرئيس منغو يقدر عظمة الزعماء بصيحات المشاركين في المواكب وأكاليل الأزهار في أعناقهم. كلما ازداد وزن أزهار الآذريون في عنق الزعيم عظم قدره عنده. إن اندلاع إمكانيات الاضطرابات الطائفية في موكب زعيم يجعله أعظم وأكبر. وكان يريد أن يزن القانون الجديد في هذا الميزان الذهني.
خرج من سوق انار كلي، وساق عربته على مهل، إذ وجد راكبا إلى المعسكر عند محل سيارات. وبعد الموافقة على الأجرة ضرب الحصان بالسوط وظن في نفسه:
“لا بأس، هذا أيضا جيد، لعلني اطلع على القانون الجديد من المعسكر نفسه.
وصل الرئيس منغو إلى المعسكر وأنزل الراكب بمنزله المنشود. ثم أخرج سيجارة من جيبه، وأمسكها بين الخنصر والبنصر من اليد اليسرى وأشعلها ثم جلس على حشية المقعد الأمامي. وفي أوقات لا يبحث فيها الرئيس منغو عن راكب أو أراد أن يتأمل في واقعة ماضية، كان يرجح الجلوس في المقعد الخلفي بطمأنينة كبيرة ويلف زمام الحصان حول يده اليمنى. وفي مثل هذه المناسبة شرع حصانه يمشي ببطء بعد إطلاق صهيل خفيف. كأنه فرغ من العدو والسباق. وكانت مشية الحصان وكذلك الأفكار في مخه بطيئة جدا. كما مشى الحصان بخطوات خفيفة، كذلك دخلت الأفكار الجديدة والتخامين عن القانون الجديد في ذهن الرئيس ببطء.
كان يفكر في طريقة نيل أرقام العربات من البلدية في ضوء القانون الجديد وكان يحاول فهم هذه النقطة المهمة في ضوء الدستور الجديد. وكان مستغرقا في مثل هذه الأفكار. إذ بدا كـأن راكبا ناداه، فالتفت إلى الوراء، فرأى “أبيض” واقفا بعيدا منه على هذا الجانب للشارع عند عمود كهربائي، كان يدعوه بتلويح يده.
كما ذكر سابقا أن الرئيس منغو مقت البيض شديدا، فلما وجد زبونه الجديد بأنه
أبيض، ثارت عواطف الكراهية في قلبه.
فخطر بباله أولا أنه لا يلتفت إليه البتة، ويذهب تاركا إياه، ولكنه ظن فيما بعد “أن ترك الفلوس أيضا من السفاهة، على أن أستلم أربع عشرة ونصف أنه من جيبه التي أنفقتها لشراء تاج الحصان. فهيا بنا نذهب” لف عربته بدقة على الشارع الخالي وضرب الحصان بالسوط، فوصل إلى العمود الكهربائي في غمضة عين. وأوقف العربة ساحبا زمام الحصان، وسأل الأبيض وهو جالس على المقعد الخلفي:
اين تريد الذهاب يا سيدي؟”
سأله منغو بلهجة تمسخر وبان هذا التمسخر عندما قال “يا سيدي”، بحيث أن انجذبت شفته العليا المغطاة بأشعار الشارب إلى تحت، وفي جوارها تعمق خط خفيف ممتد من الخيشوم إلى الذقن بهزة عند هذا الجانب للخد. كان شخصا رسم خطا دقيقا بسكين حاد في خشبة الورد السمراء. ظهرت البشاشة على وجهه بينما أحرق ذلك الأبيض رمادا في داخله بحريق القلب.
عندما تحول الأبيض الذي كان يشعل سيجارة وراء العمود الكهربائي تجنبا اتجاه الرياح، وتقدم إلى ركاب العربة، تلاقت عيناه بعيني الرئيس منغو. وبدا كأن الرصاصات أطلقت من البنادق المتقابلة في وقت واحد، فتصادمت وطارت في صورة شعلة نارية في الهواء.
وكان الرئيس منغو على أهبة للنزول من العربة، حرر يده اليمنى من لفات الزمام، وأحدق في وجه الأبيض الواقف أمامه بعينين حادثين وبدا كأنه يمضغ كل جزء من كيانه بعينيه. وأما الأبيض فهو نفض شيئا غير مرئي من بنطلونه الأزرق. كأنه يحاول أن يقي بعض جزء نفسه من هجمة الرئيس منغو. قال الأبيض مبتلعا دخان السيجارة: تذهب أنت أم تفسد الأمر”.
“إنه نفس الأبيض”، جاءت هذه الألفاظ في ذهن الرئيس منغو، وانشات ترقص
في صدره العريض.
“إنه نفس الأبيض” كرّر هذه الألفاظ في داخل نفسه. وتيقن أن الأبيض الواقف أمامه هو نفس الشخص الذي حصلت بينهما المشادة في السنة الماضية، وعبثا تحمل كثيرا بسبب ذلك الشجار الذي كان سببه شرا متصاعدا في ذهن الأبيض. كان الرئيس منغو يستطيع أن يقوم سلوك الأبيض بل يحطمه إلا أنه لاذ بالصمت لأنه عرف جيدا أن في مثل هذه المشادات تصب المحاكم جام غضبها على الحوذيين (يعني تعاقب المحاكم الضعفاء حتى ولو كانوا غير مذنبين) فكر الرئيس منغو في مشادة العام الماضي والقانون الجديد المنفذ منذ أول إبريل وقال للأبيض: “أين تريد أن تذهب؟”
كانت لهجة الرئيس منغو حادة مثل ضربة السوط.
فأجاب الأبيض: “هيرا مندي” (متجر هيرا)
“ستكون الأجرة خمس روبيات، ارتعشت شوراب الرئيس منغو.
تحير الأبيض لسماع هذا الكلام. فصاح: “خمس روبيات؟ هل انت …” خمس روبيات” قال هذه الجملة وتحولت كف يده اليمنى المليئة بالأشعار قبضة ضخمة. “هل تذهب أو تضيع الوقت في الكلام الفارغ أصبحت لهجته شديدة أكثر.
وكانت حادثة العام الماضي تتراقص أمام عيني الأبيض، فأهمل عرض صدر الرئيس منغو. كان يظن أن جن عقله وغلبته فكرة الغلبة المشجعة، واندفع إلى العربة مزهوا، وأوماً إلى الرئيس منغو بعصاه للنزول من العربة. مست العصا الخيزران الهزيلة المصقولة فخذه السمينة مرتين أو ثلاث مرات. فنظر واقفا إلى الأبيض القصير القامة من فوق، كأنه أراد أن يسحقه بوزن نظرته. ثم ارتفعت لكمته مثل سرعة السهم من القوس، وهبطت تحت ذقن الأبيض في لمح بصر.
ثم نزل ودفعه دفعا أبعده عن المكان قليلا، وشرع في ضربه بيديه ورجليه.
فحاول الأبيض المتحير المبهوت أن يتجنب اللكمات الضخمة بالتحول إلى اليمين والشمال. ولما رأى أن خصمه كان جن جنونه، وتطايرت من عيونه شرارات الغضب، أخذ يصيح بصوت عال وزادت صيحات الأبيض سرعة ضربات منغو وفي نفس الوقت تمتم نفس الكبرياء حتى في أول إبريل، نفس الكبرياء حتى في أول إبريل أيضا، إن الحكومة حكومتنا الآن ولسنا عبادكم”!
احتشد الناس وخلص رجلان من شرطة الأبيض من قبضة الرئيس منغو. وكان الرئيس واقفا بين هذين شرطيين. وذهب صدره العريض صعودا وهبوطا لأجل أنفاسه المنتفخة. وكان يرغى ويزيد، ونظر إلى حشد متحير من الناس بعينيه المبتسمتين، وقال في صوته اللاهث: “انقضت تلك الأيام التي كان يطير فيها الخليل خان الحمام (انقضت تلك الأيام التي كان يستبد الإنجليز بالأمور)، الآن عندنا قانون جديد سيدي، قانون جديد.”
وكان ذلك الأبيض المسكين يجيل النظر بوجهه المشوه مثل سفيه إلى الزحام
مرة وإلى الرئيس منغو أخرى.
ذهب رجال الشرطة بالرئيس منغو إلى المركز، وكان يصيح في الطريق لحجرة المركز “القانون الجديد، القانون الجديد” ولكن لم يعر له أحد أذنه. “ماذا تقول؟ قانون جديد قانون جديد؟ إن القانون فهو نفس القانون القديم ساري العمل”.
وألقي في السجن.
[1] تشودهري هو رجل مسن محترم في قرية يعتبر خبيرا في الشئون الدنياوية، يستمع إليه كل الناس عندما يتحدث ويلجأون إليه للاستشارة.
[2] هم طبقة اجتماعية في بلاد الهند يمارسون التجارة ويعرفون بها، يطلق عليهم مارواري في اللغة الغوجراتية.
[3] الجزء السادس عشر للقطعة المعدنية الهندية استخدمت كعملة في وقت مضى.