عبد الحميد جودة السحار

عاد طاهر إلى مقعده في الطائرة، بعد أن استراح في مطار أثينا واشترى بعض هدايا لناهد. واستأنفت الطائرة رحلتها إلى روما، واسترخي في مقعده وشرد، وراحت مشاهد قصته مع ناهد تمر في ذهنه بأدق تفاصيلها، وما كانت تتجسم له لأول مرة في هذا النهار، ولكنها لم تبرح خياله منذ عقد العزم على أن يسافر إلى روما لمقابلتها بعد ثلاث سنوات من فراقهما.

كان ما يزال طالبا في الجامعة، وقد رآها أول مرة في فناء الجامعة مع أترابها فأحس كأن مغناطيس روحها يجذبه إليها. لم تكن أجمل الفتيات، ولم تكن تتمتع بحسن صارخ يلوي العنق ويبهر النظر، ولكنه وجد روحه تهفو إليها، وقلبه يخفق خفقا لذيذا منعشا عندما تقع عينه عليها.

واعتقد أن ذلك عرض زائل، ولكنه لما دخل فراشه ألفى نفسه يفكر فيها وهو نشوان، يلوك صورها في خياله وهو يستشعر تلك اللذة التي يحسها الجائع وهو يلوك أول ما يدخل فمه من طعام.

وانطلق في البكرة إلى الجامعة، ينقب عنها في كل مكان. راح يجول حول أبنية الجامعة ويجوس خلال قاعاتها، وذهب إلى الباب الكبير أكثر من مرة، ودقت الساعة دقاتها العالية، ولكن دق قلبه كان يطفو في أذنيه على كل صوت حتى يغمره. وأخيرا لمحها قادمة وحدها في الطريق الواسع القادم من ناحية الترام، فسرى فيه خوف هادئ لذيذ، ورقص قلبه رقص عربيد، ووسوست له نفسه أن يتقدم إليها، ولكنه تسمر في

مكانه وجعل يرنو إليها وهو سعيد.

ومرت به دون أن تحس وجوده، ولكن كل خلجة فيه أحست كأن ريشة نعام تدغدغها، وأن نسائم الصبا هبت عليها، وأن عوالم فسيحة من السعادة تفتحت أمامها تفتح الورود لندى الصباح.

وجعل يفكر في وسيلة تدنيه منها، إنه في السنة النهائية وهي لم تطأ أعتاب الجامعة إلا هذا العام، أيذهب إليها ويسألها أن تعيره كتابا لليلة واحدة، يراجع فيه بعض المواد التي غابت عن ذهنه منذ كان في السنة الأولى؟ ولكن أين ذلك الكتاب المقرر على السنة الأولى الموصول الصلة بمحاضرات السنة النهائية؟ ولماذا هذا اللف والدوران؟ لماذا لا يذهب إليها يحييها ويحادثها محادثة الزميل لزميلته؟ آه لو لم يكن قلبه خفق بحبها إذن لكل ذلك أمرا ميسورا، إنه يهاب أن يتلعثم أو يتصرف تصرفا خاطئا غير مقصود فيقضى على الأمل الدفيء الذي اشتعل فجأة في أغواره لينير له طريق حياته.

وعاش يفكر في الوصول إليها، وتعطلت في نفسه مشاكل الحياة كلها إلا مشكلة ربط أواصره بأواصرها، ولم يطمئن إلى تدبير، وفجأة واتته فرصته مصادفة، إذ لمحها واقفة في ثلة من الزملاء وقداح الحديث تدور بينهم، وكان بين الثلة أحد أصدقائه فذهب إليه وحياه، ثم حيا الجميع تحية خاطفة، والتقت عيناه بعينيها برهة كانت من أحفل لحظات حياته بالمتعة.

وراحت تتحدث مع المتحدثين، وهو يصيغ سمعه لصوتها الذي يتردد في جنباته تردد الناي في معبد، وقد هامت روحه في دنيا مترعة بالمشاعر الرقيقة الهفهافة المتدفقة من عين صافية.

وعاد إلى البيت في ذلك اليوم خفيفا كالطيف، رقيقا كالنسيم، كل ما يراه جميل، وما يصل إلى أذنيه عذب، وما يحسه نشوة، وما يخفق بين جنباته لذة، وما يسرى في عروقه خمر، وما يتدسس إلى ذهنه صفاء، فهو محب أشرف على ربى الحبيب.

وفى الصباح كان يرصد محطة الترام التي ستهبط فيها، وكان كلما لمح طالبة هابطة خفق قلبه في شدة، وأرهفت حواسه، وزاد تردد أنفاسه سرعة، واتسعت عيناه، حتى يعود إليه هدوؤه المغلف يقلق ممزوج بلذة، يسبح في أبخرة منبعثة من مجمرة نشوته.

وشعر بمقدمها فؤاده قبل أن تتبينها عيناه، فإذا بقلبه يقفز حتى يكاد يفر من فيه، ثم يهبط حتى يصل إلى أقدامه. وفر بعيدا، وسار في الطريق الجانبي زائغ البصر لا يستقر له قرار، وراحت مشاعر كثيرة غزيرة تتدفق في أعماقه حتى كاد يختلط عليه أمره، وراح يلم أطراف شجاعته التي تبددت تبدد الظلام إذا ما بهره النور.

وخفف من خطوه وهو يرقبها، إنها تدنو منه، ولو عرج من الطريق إلى الطريق الرئيسي لالتقى بها، ولبدا ذلك مصادقة غير مدبرة، ولم يكن ذلك أمرا هينا، فراح يقاوم الضعف الذى استسلمت له حصون نفسه، وحمل عليه حمله صادقة، حتى إذا بدأت هزيمته لم يتريث حتى يجمع فلوله، بل عرج إلى الطريق الرئيسي وأصبح أمامها وجها لوجه، وسدت سبل النكوص على الأعقاب.

قال وهو يبتسم ابتسامة عذبة:

  • صباح الخير.
  • صباح النور.

وسارا جنبا إلى جنب يتحدثان حديثا عاديا لا جاذبية فيه، ولكن بلابل نفسه كانت تشدو، فملأت الكون كله طربا وحبا، وكست كل ما يمد إليه بصره روعة وجمالا وسحرا حلالا.

وراحت الأيام تمر، والعلاقات بينهما تزداد توثقا، ودعاها إلى السينما مرة، وخرجا إلى الجزيرة معا، ثم تطورت الصلة بينهما إلى حب عارم جارف، وأصبح كل منهما لا يطيق أن يبعد عن الآخر يوما واحدا.

وانتظرها ذات يوم قبل امتحانه النهائي في حديقة جروبي، وجعل ينمق ما سيقوله لها، فقد عزم على أن يتخذ أخطر قرار في حياته، ذلك القرار الذي سيشده إلى الأبد إلى امرأة بعينها، ولمحها مقبلة. فقام يستقبلها باشا مرحبا. وجلسا يتبادلان النظر في صمت. ولكن حديث العيون كان أفصح من كل بيان. وأخرج علبة سجائره وناولها سيجارة وأخذ أخرى، وأشعل لها سيجارتها ثم أطفاً عود الثقاب في حركة عصبية، وأخرج السيجارة من فمه وقال:

سنتزوج يا ناهد، لم أعد أطيق بعدك عنى لحظة. طيفك يلازمني في خلواتي، في غدوي ورواحي، في ساعات غفوتي، وفي أوقات يقظتي، صورتك في كل كتاب، في كل ما أمد إليه بصرى، قائمة في ذهني، منقوشة في قلبي، مسيطرة على وجداني. إنني بدونك عدم، أنت نهر الحياة المتدفق في حياتي، النسائم الباردة في سعير زمني، الواحة الظليلة في صحراء وجودى، النبض المتردد بين جوانحي.

بعد أن ينقضي الامتحان سأقدمك إلى أهلي، سأقول لهم: ناهد زوجتي، شريكة حياتي، حبيبة فؤادي، درعي في الحياة.

وأطفأت سيجارتها وهي ترنو إليه في وجد، ثم انبثقت في عينيها لؤلؤتان.

وتعاقب الليل والنهار وما تسرب إلى نفوس الناس الملل، فقد كانت تغمر قلوبهم الآمال، وانقضى الامتحان وتخرج طاهر في الجامعة، وأخبر أمه أنه عزم على الزواج، وأنه اختار زوجته وسيقدمها لها.

وجاء إلى البيت وناهد فى يده، تستشعر رهبة خفيفة تنتشر في أعماقها، فقد كانت مقدمة على أدق اختبار، ولم تخف مخاوفها بل قالت له لتطمئن نفسها:

  • لم أحس مثل هذا الخوف في أثناء الامتحان.

فضغط على يدها في حنان ولم ينبس بكلمة. وقادها إلى غرفة الاستقبال، ثم تركها وخرج، وسرعان ما عاد وأمه معه وقال في انشراح:

  • أمي.. ناهد

وصافحت الأم الفتاة وعيناها تتجولان فيها سريعا، ثم قالت وهي

تجلس:

– تفضلي.

وجلسوا يتحدثون، وفتحت ناهد حقيبتها وأخرجت علبة سجائرها، وسحبت سيجارة بأناملها وراحت تشعلها، فتغير وجه الأم، ولم تفطن ناهد إلى ذلك، ووضعت ساقا فوق ساق، ووقعت عين الأم الفاحصة على بطن فخذها فاستشاطت غضبا، ولم تستطع أن

تكبت ثورتها فقامت وغادرت المكان منفعلة.

وشعرت ناهد أن الأم تركت المكان محتدة، فراحت تنظر إلى طاهر نظرات كلها قلق، ولم تفطن إلى ما ساءها. وانتزع طاهر من شفتيه ابتسامة لينزل السكينة بقلبها، وإن كان القلق قد انتشر في أرجائه.

وقام مستأذنا وانسحب إلى حيث ذهبت أمه، وكان يخطو متمهلا وإن كانت الثورة متأججة في نفسه، وما أن وقعت عينا أمه عليه حتى صاحت.

  • هذه قد تصلح أن تكون راقصة، أما أن تكون زوجة ابني فلن يكون هذا أبدا.
  • إنني أحبها وسأتزوجها.
  • إن تزوجتها فلن تكون ابني، سأتبرأ منك ليوم القيامة.
  • أنت قاسية.. ظالمة. لماذا تهدمين بمعاولك فتاة طيبة ليس لها جريرة إلا أنها أحبت ابنك، وأحبها ابنك؟

فقالت في صوت كالرعد:

  • لو كانت طيبة لما جاءت مع شاب إلى بيته دون علم أهلها، ولما قبلت أن تعرض في سوق الدلالة كالسبايا.
  • أمي.. هذا كفر.. هذا حرام.

واحتدم النقاش بينهما، واندلع لهيبه، وبلغ مسامع ناهد ما كانت الأم تتفنن في صبه على رأسها من سباب واتهامات، فقامت حانقة تغادر المكان كعاصفة هو جاء.

وعاد طاهر إلى غرفة الاستقبال والشرر يتطاير من عينيه، والغضب يأكل صدره، ولم يجدها فزادت ثورته ضراما، وخرج إلى الشارع يعدو وراءها، ولكن لم يعثر لها على أثر.

وطفق يبحث عنها فى كل مكان يعرف أن تزوره دون جدوى و استبد به قلقه وراح وجده يعذبه، وأخيرا ذهب إليها في بيتها ليطفئ لهيب اللوعة التي تؤرقه وتخز روحه. ولكنه علم أنها سافرت مع أهلها إلى الإسكندرية تمضي الصيف هناك.

وخطر له أن يسافر وراءها، ولكن العمل الجديد الذي التحق به لم يكن يسمح له أن يغادر القاهرة، لينقب عمن تركته يتلظى بنار الوجد والحرمان.

وتقضت أيام الصيف وهو يعلل النفس باللقاء والعتاب والصفاء ثم بحياة هانئة سعيدة، بعد أن أفلح في إلانة قناة أمه التي كانت تقسم بأغلظ الأيمان أنها لن ترضى عن هذا الزواج أبدا.

واستقبلت الجامعة عاما جديدا، وانطلق طاهر إلى هناك ليقابل ناهد، ويعتذر لها عما كان، ويمسح جرح نفسها، ويخبرها أن أمه ذاهبة إلى أهلها لتخطبها له منهم، لعل ذلك يرضيها، ويكون كفارة لما بدر منها في حقها.

وجعل ينقب عنها هنا وهناك دون أن تقع عليها عيناه، ولمح بعض صواحبها فاتجه إليهن وقال:

  • أين ناهد؟ ألم تأت بعد؟

فقالت إحداهن:

  • سافرت:

فقال في لهفة:

  • إلى أين؟

وكأنما لذ لها أن تعذبه، فجعلت تقطر له النبأ قطرة قطرة:

  • إلى الخارج

فقال في شيء من الحدة والضيق:

  • إلى أين؟
  • إلى إيطاليا.
  • لماذا؟

لتكمل دراستها هناك.

ودارت به الأرض، وأظلمت الدنيا في عينيه، وأحس كأن أثقال العالم تكاد تنقض ظهره، وأن صدره بات مستودعا للمرارة والأسى.

وكاد يركن إلى يأسه، ولكن بصيصا من الرحمة تسلل في ذلك القتام وهداه السبيل، راح صوت حنون يهمس في أذنيه أن عليه أن يعمل، وأن يجد في عمله حتى يجمع من المال ما يمكنه أن يذهب إليها هناك في إيطاليا يعلن لها عن أسفه، ويحدثها عن لهيب الجفاء الذي تلظى فيه سنى الحرمان، ثم ينبئها أنه قد تطهر وأصبح جديرا بالجنة التي تنتظره.

واندمج في عمله وأفنى فيه نفسه، وطيفها ينفث فيه العزم، ويمده بقوة طاغية. وما انقضت ثلاث سنوات حتى حقق نصف حلمه، وأصبح معه من المال ما يكفي لسفره وأوبته، وإتمام زواج سعيد، وتهيئة عش هانئ ترفرف الطمأنينة عليه بجناحيها.

إنه في طريقه الآن لتحقيق أمله، وإرواء ظمأ نفسه، وتغذية فؤاده الذي كاد يتلفه جفاف الحرمان بحنانها الدفاق الذي يغرس فيه الحب، ويضفي على كل ما في الكون هالات الحسن والجمال.

وهبطت الطائرة في مطار شيامبينو، ونزل إلى الأرض، واستقبلته المضيفات الإيطاليات ينطقن الإنجليزية بلكنة أمريكية، وسار مع من ساروا إلى الجمرك. وسرعان ما انتهى من الإجراءات، واندس في السيارة التي ستنقله إلى قلب روما.

وانسابت السيارة في طريق على جانبيه خضرة، وعن يساره قضبان المترو، وفى سمائه سحب خفيفة، وقد راحت ترعى في المراعي الخضر بعض قطعان الضأن، ولم يحفل بالمشاهد التي راحت تتتابع أمام عينيه، فقد كان مشغولا عنها بالأفكار التي كانت تنبض حية في رأسه.

ووقفت السيارة في الشارع المنحدر المزدحم بالسيارات على جانبيه، المنطلق إلى ميدان برباريني، ونزل من فيها واتجهوا إلى مكتب شركة مصر للطيران، وراحوا يتسلمون حقائبهم. أما هو فقد راح يسأل عن رقم تليفون المركز الثقافي بسفارة الجمهورية العربية المتحدة.

واهتدى إلى الرقم وراح يطلبه، وارتفع صوت من بعيد نبراته عربية:

  • آلو
  • أرجو معرفة عنوان الآنسة ناهد رضوان.
  • من المتكلم؟
  • قريب لها جاء من مصر لزيارتها.
  • لحظة من فضلك.

وانقطع الصوت، وبدأ طاهر يستشعر غرابة موقفه، أيعقل أن يأتي قريب من مصر خصيصا لزيارة قريبته دون أن يعرف عنوانها؟؟ وقبل أن

يستسلم لأفكاره جاء الصوت من الطرف الآخر:

  • فيا باجليفي رقم ۱۷.
  • متشكر. حسبت أنها تركت هذا المنزل.

ووضع السماعة وهو يعجب من نفسه، لماذا كذب وجعل الرجل يعتقد أنه كان يعرف ذلك العنوان؟ إنه أحس في أعماقه ضعف مركزه فكذب، ولم يكن أمامه فسحة من الوقت المحاسبة نفسه. فترك حقائبه في مكتب الطيران، واندفع في أول تاكسي قابله وقال:

  • فيا باجليفي.

ولم يعرف كيف ينطق الرقم ۱۷ بالإيطالية، فراح يقول:

  • Dix Sept; Seventeen، سبعة عشر.

وأخيرا أخرج ورقة وقلما وكتب: 17.

وانطلقت السيارة به، وراحت تطوى شوارع مزدحمة قامت فيها تماثيل كثيرة، ولم يكن يدري أين يذهب فاسترخي في مقعده، ولكن رأسه كان ينبض بالأفكار، وصدره يخفق بشتى المشاعر والإحساسات.

ووقفت السيارة أمام منزل أشبه بمنازل الإسكندرية في الشوارع الجانبية، وهبط من السيارة بعد أن ألقى نظرة على العداد الموضوع داخلها إلى جوار السائق، وكان قد سجل ٣٠٠، فأخرج من جيبه ثلاثمائة ليرة ودفعها إلى الرجل، ولكن هذا رفض أن يتسلمها وراح يشير بأصابعه الأربع، وفهم طاهر أنه يطلب أربعمائة ليرة، ولم يكن يقدر على التفاهم معه، فنقده ما طلب ثم وقف يتلفت.

ولمح دكان بقال بالقرب من المنزل، فذهب إليه وقال:

  • سنيوريتا ناهد.

ووقف الرجل صامتا برهة وهو ينظر إليه، ثم قال كأنما أدير فيه زر كهربي أضاء رأسه:

  • أوه.. سی سی.. اجيبسيانو

وتدفق الكلام من فمه ولم يفهم طاهر حرفا، ولكنه نظر إلى حيث يشير، وعلم أنها تقطن في الطبقة الثانية.

وراح يصعد في الدرج متمهلا، حتى إذا ما بلغ الطبقة الثانية راح ينقل بصرة بين الأبواب الثلاثة التي أمامه لا يدري أيها يطرق، وجعل يتصور موضع الشقة التي أشار إليها الرجل، ثم تقدم نحو الباب الذي في الوسط وضغط الجرس وقد بدأ يستشعر رهبة تمشي في أوصاله.

وفتح الباب ونظرت إليه فتاة إيطالية وقالت:

  • سي.
  • سنيوريتا ناهد

وراحت تتحدث بالإيطالية، وفهم من حديثها أن ناهد في (الكافيه دي باري) وكأنما أراد أن يتأكد فقال:

  • کافیه دي باري؟

فقالت وهي تهز رأسها موافقة:

  • کافیه دي باري.

وانطلق التاكسي به إلى كافيه دي باري. وكانت الساعة تجاوزت الخامسة، والحياة بدأت تدب في المقاهي القائمة على جانبي فيا فينيتوا.

ووقفت السيارة أمام المقهى فإذا بقشعريرة تسري في بدنه، وإذا برهبة تنتشر في أرجائه، وإذا بدقات قلبه تتزايد ونظراته لا تعرف الاستقرار.

وسار بين صفى المقاعد المنتشرة على طول الإفريز وهو يتفرس في الوجوه. كان يتقدم كالمأخوذ، أو كالسائر في حلم من الأحلام، لا يكاد يحس وجوده، ولا يكاد ينكر نفسه.

ودوى قلبه بين جنباته، وتدفقت دماؤه حارة في عروقه، وجمد في مكانه وقد اتسعت عيناه، إنها هي، ناهد حبيبة الفؤاد، لا يفصل بينه وبينها إلا خطوات.

وكاد يهتف باسمها، وكاد يجرى إليها، ولكنه جمع أطراف نفسه المشتتة، وراح يتقدم في تؤدة، وإن كانت كل إحساساته قد حطمت أغلالها.

ووقف أمامها ولم يجد لسانه وإن ترقرق الدمع في مقلتيه، ورفعت رأسها تنظر، ولم تصدق عينيها، ولكن سرعان ما هتفت:

  • طاهر.. طاهر

وهبت واقفة وطوقته بذراعيها وراحت تقبله في وله وسعار، وهو يضمها إليه وقد انمحق الوجود كله إلا وجودهما. كان هو وهي الدنيا بكل ما فيها من مشاعر وأحاسيس وخلجات.

وأبعدته عنها ونظرت إليه كأنما تتحقق من أن ما تحسه حقيقة وليس وهما من تهاويل الخيال، ثم عادت تضمه إلى صدرها دامعة العين.

وجلست وهي تجذبه من يده، فجلس، ونظرت إليه طويلا ثم قالت:

  • أنت هنا. لا أستطيع أن أصدق. متى جئت؟ وما الذي جاء بك؟ وكيف أنت؟ وكيف عرفت أني هنا؟
  • فقال وقد وضع يده على المنضدة:
  • جئت الآن، وسألت عن عنوانك في المركز الثقافي، وها أنا ذا هنا.

ومدت يدها وجعلت تمرر أناملها فى رقة بين أصابعه، فأحس كأن يدا حنونا تهدهد روحه، فاستكان في لذة. وراحا يتحدثان ويهيمان في عوالم مفعمة بالرقة والحب والصفاء.

قالت وهي تنظر في عينيه:

  • لم تقل لي: ما الذي جاء بك؟
  • أنت. لا أستطيع أن أعيش وأنت بعيدة عنى، لابد أن نتزوج! ولن أنتظر حتى نعود إلى مصر. بل سنتزوج هنا في القنصلية ونمضي شهر العسل في الريف الإيطالي.

ومالت برأسها حتى التصق جبينها بجبينه وقالت:

  • ليتك تعرف كم أنا في حاجة إليك!

وجعلا يهمسان ويتناجيان، ثم قالت:

  • وأين حقائبك؟
  • في مكتب شركة الطيران، لم أبحث عن فندق بعد.

فقالت وهي تضحك:

فندق؟ لن تبيت إلا عندي. هيا.

وحملا حقائبه وذهبا إلى البيت وهى تدور في أرجائه من الفرح كفراشة، وتغنى أغنية إيطالية دافئة تعبر عن الأحاسيس الفوارة التي تمور في أعماقها، وكانت تضمه وتقبله، ثم تضمه وتقبله، وقالت:

  • ما رأيك في كأسين من النبيذ الإيطالي؟

ولم تنتظر جوابه، بل ذهبت وعادت بصينية صغيرة فوقها كأسان وزجاجة وجعلت تصب النبيذ وهي تنظر إليه في وله وكأنما تذكرت شيئا فإنها فقالت:

  • ألا تخلع هذه الثياب وتستريح؟

وهمت بأن تنهض تعاونه على رص ملابسه في الصوان القريب من السرير، ولكنه التمس منها أن تستمر فيما هي فيه وأن تترك هذا الأمر.

وفتح الصوان، وإذا به يجمد في مكانه لا يريم… وجد فيه بيجامة رجل. وتحركت غيرته وانسدلت غشاوة على عينيه، وهجمت جيوش القلق والغضب والمفت تعمل أسلحتها الفتاكة في صدره.

كان على وشك أن يخلع جاكتته، ولكنه أعادها كما كانت. وفطنت ناهد إلى ما اعتراه من تبدل، فمدت بصرها ورأت البيجامة، ولم تفزع، بل قامت إليه في هدوء وقالت دون أن تضطرب:

لابد أن تعرف كل شيء ما دمت قد جئت لتتزوجني.

وجلست على طرف السرير وراحت تقص عليه قصتها، قالت: جئت إلى روما وحدي، وعشت مع زميلاتي الإيطاليات لا أختلط بهن إلا في ساعات الدرس ثم أعود إلى بيتي، كان الملل يستبد بي ولكنني كنت أقاومه. وتفتحت عيناي على الرغم منى على دنيا جديدة تختلف عن الدنيا التي عشنا فيها. كانت كل فتاة تتحدث عن فتاها، عن ساعات الصفو التي قضياها.

ومرت سنتان طويلتان مريرتان وأنا أقاوم الإغراء الذي يحيط بي، وإن كانت نفسي تهفو إلى ما أسمعه منهن في الصباح وفي المساء. إنني بشر، من دم ولحم، رغباتی ترهقني، تستبد بي، تکاد توردني موارد الهلاك.

وذات ليلة دعتني إحدى زميلاتي إلى حفل خاص في بيتها وذهبت ولم يكن هناك إلا أنا وهي وشابان أجنبيان حضرا إلى روما في رحلة.

وقدمت إلينا النبيذ، ودار رأسي ولم أشعر إلا وأنا في الصباح في فراش

واحد مع أحد الشابين، وقد انتهى كل شيء.

لم يعد هناك ما أخشى عليه..

وصاح كوحش جريح:

  • اسكتي.. اسكتي.
  • بل لا بد أن تسمع قصتي، إنك لا تعرف كم أحس بالراحة الآن وأنا أرفع هذه الأثقال التي جثمت على صدري سنة.. سنة كاملة انقضت وأنا أتعذب وحدي، لا أجد من أفضى إليه بمتاعبي.. لم يعد هناك ما أخشى عليه، انتهى الأمر وأصبحت كزميلاتي، أصادق هذا مدة حتى إذا سئمني أو سئمته بحثت عن آخر

وهويت، ولكنني لم أكن راضية عن الحضيض الذي وصلت إليه، كنت أحتقر نفسى، أتلفت باحثة عن الخلاص، وجاء إلي يعرض على أن ينتشلني.

– من؟

– صاحب هذه البيجاما.

– من هو.

– شاب مصري.

– طالب؟

– لا. إنه يعمل هنا في وظيفة متواضعة.

واتجه طاهر إلى حقائبه يحملها وهو مطرق. والتفتت إليه وقالت:

– ذاهب؟

– نعم.

– لماذا؟

لأنني لا أستطيع أن أتصور أن التي سأتزوجها كانت تنتقل يوما بين أحضان الرجال.

  • طاهر.. ابق.. أرجوك، إنني في حاجة إليك لا تتركني، بربك لا تتركني.
  • محال.

وهبت واقفة وقالت:

إذا كنت وصلت إلى هذا فأنت السبب، إنني ضحيتك..

ضحيتك أنت..

ووضع يده في جيبه وأخرج كل ما معه من نقود ووضعها على نضد قريب منه، ورأت النقود من خلال الدموع التي ملأت عينيها فصاحت فيه:

  • إن كنت ذاهبا فخذ نقودك، لا أريد منك شيئا، لماذا جئت؟ أجئت تنكأ جروح نفسي التي اندملت؟ أجنت تهتك أكفان الماضي؟ أجئت توقظ ما غفا منى؟ أجئت تغريني بأن أشن حربا هوجاء على ذاتي؟ أن أعذب روحي؟ ليتك ما جئت، وليت شمس ذلك اليوم الذي عرفتك فيه ما أشرقت وليت قلبي قد خرس قبل أن يخفق بحبك.

اخرج.. اخرج

وفتح الباب في رفق وانسل خارجا وهو مطرق، ثم عاد وأغلق الباب، وارتمت ناهد في الفراش تضربه بيدها في شدة وتبكي وتنتحب.

وفي صباح اليوم التالي كان طاهر في مطار شيامبينو ينتظر الطائرة القادمة من زيورخ لتحمله إلى مصر، وهو مطرق تكاد نياط قلبه تتمزق حزنا وأسى، فقد كان عائدا من مأتم حبه.